د. إحسان بوحليقة

الخصخصة.. مشروعنا المُتَعثر

كَثُر الحديث عن تعثر المشاريع، وأن آلافاً مؤلفة منها قيد المراجعة، بل أن ميزانية العام المالي الحالي (2016) أُعلنت بدون مخصصات محددة للمشاريع، فقد جُنبَ مخصص قوامه 183 مليار ريال للتحوط لاعتبارات عدة منها الحاجة للإنفاق الرأسمالي. وعند التمعن، فقد نجد ما يبرر القول إن أكبر المشاريع المتعثرة هو مشروع «الخصخصة»، فقد تحدثت عنه أدبيات التنمية السعودية طويلاً، لكن لم ننفذ حتى الآن إلا القليل مما هو مستهدف، فهل الخصخصة شأن لإعادة هيكلة الانفاق الحكومي؟ أم هو مشروع لتوسيع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد؟دور القطاع الخاص أساس دون شك، أو يجب أن يكون كذلك، لكن اقتصادنا ما برح اقتصادا نفطيا، كما نعلم جميعاً، ونعلم جميعاً كذلك أن الدولة - رعاها الله - تسعى منذ الأربعينيات من القرن الميلادي المنصرم لنشر التنمية، ومنذ مطلع السبعينيات الميلادية أطلقت خططاً خمسية للمواءمة بين التنمية والنمو الاقتصادي، باعتبار أن الأساسيات التنموية شرط سابق لأي تنويع اقتصادي، فالبنية التحتية ضرورية حتى تقام عليها بنية فوقية (لأنشطة إنتاجية) وخلال هذا العام أعلنت الحكومة الموقرة عن الرؤية السعودية 2030 وعن برنامج التحول الوطني 2020.إذاً، سؤال: (هل حان الوقت ليمارس القطاع الخاص دوره) ليس سؤالا جديدا، بل أصبح مملاً وممجوجاً؛ فعلى مدى الخمسين عاماً الماضية كان دور القطاع الخاص دوراً رديفاً، يعيش في جلباب الانفاق العام ويتفيأ بظله ويقتات عليه. لا بأس في ذلك شريطة تقديم قيمة مضافة للاقتصاد وللمجتمع، وإلا لمَ الدعم ولمَ الإعفاءات ولمَ الحماية؟ يُقدم كل ذلك من قبل الحكومة والمجتمع لتتمكن منشآت القطاع الخاص من ممارسة دور إيجابي يضيف للاقتصاد الوطني وللمجتمع بما يراعي أسس استدامة النمو، وليس من خلال استراتيجية «أنا ومن بعدي الطوفان» أي أن يمارس القطاع الخاص دوره كشريك وليس كمجرد بائع أو مشترٍ. الآن، وقد بدأت تصلنا تأثيرات انخفاض إيرادات الخزانة العامة، وبدأ القطاع الخاص يلمس ذلك، مما يبرر القول إنه لابد من توسيع دور القطاع الخاص، ويمكن أن يتحقق ذلك على ثلاثة محاور.الأول: أن يصبح القطاع الخاص المساهم الأكبر في «فاتورة الأجور» والمُوظِف الأول للمواطنين، من خلال تطبيق استراتيجية التوظيف السعودية ضمن أطر زمنية محددة، ولا يقتصر الأمر على مجرد توظيف سعوديين بل تأهيل وتدريب وتطوير قدرات ومهارات السعوديين؛ ليتمكنوا من ملء الشواغر في الوظائف الاختصاصية والمهنية والماهرة والتي لدى اقتصادنا الوطني عجز فيها (حاليا) يزيد على 2.3 مليون وظيفة (500 ألف اختصاصي و600 ألف مهني و1.2 مليون عامل ماهر) وهي الشريحة الأكثر استيعابا للعمالة الوافدة عالية الأجر، وهي - كذلك - الشريحة الوظيفية التي تمنح مسارا وظيفيا وأفقا لبناء رأسمال بشري ولإبقائه في حياض اقتصادنا الوطني وتحصننا ضد تصديره بعد سنوات، قلّت أو كَثُرَت. وهذا أمر يتطلب أن نبذل جهدا جهيدا مرتكزا إلى رؤية ثاقبة ورقابة صارمة، ولعل أفضل التجارب الوطنية ما شهده القطاع المصرفي السعودي، حتى وجدنا الآن القطاع ونسبة السعودة فيه مرتفعة من جانب (تتجاوز 90 بالمائة في بعض البنوك)، ويسيطر المواطنون على الوظائف في درجات السلم الوظيفي كافة دونما استثناء، ورغم أن النسبة تهبط في الإدارة التنفيذية لاسيما في وظائفها القيادية، وهذه النتيجة لم يتم التوصل لها إلا وفق رؤية واضحة وسياسات لا تستثني أحدا، فحققت مكسبا للوطن وللمواطنين.ثانياً: أن يُصبح القطاع الخاص المستثمر الأساس في البنية الفوقية الإنتاجية، ولمشاريع بناء السعة الاقتصادية عبر تمويل المشاريع، بحيث يمول المشاريع ذات الجداول الإيرادية المستديمة، مثل مشاريع المياه والكهرباء والقطارات والمترو، التي يدخل فيها القطاع الخاص وفق اتفاقات خصخصة طويلة المدى، فهذا يُمكن التنمية من أن تستمر دون توقف، بغض النظر عن الإيرادات النفطية، باعتبار أن الاستثمار طويل المدى في المشاريع الإيرادية سيكون مهمة القطاع الخاص وليس الحكومة ما يعني أن التوجه للخصخصة لابد إلا أن يأخذ منحى استراتيجيا متواصلا ومتواترا، لا يخفت عندما تخف إيرادات النفط، ولعل من المناسب، بالإضافة لما شمله برنامج التحول الوطني من مبادرات الوزارات، مراجعة وتحديث استراتيجية الخصخصة التي سبق أن أقرت رسميا (قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 60 بتاريخ 1418/‏4/‏1هـ، وقرار رقم 257 في 1421/‏11/‏11هـ) وبذلك ممكن أن تتواصل وتيرة الانفاق على المشاريع دون انقطاع أو تباطؤ في هذا العام 2016 وما يليهِ من أعوام، من منطلق أن القطاع الخاص سيحل - على أسس اقتصادية - محل الحكومة كممول للمشاريع، مثل مشاريع المترو التي لم ترس بعد في مدن عدا الرياض مثل حاضرتي الدمام وجدة، وكذلك مشاريع الكهرباء ولاسيما التوليد، التي كانت الحكومة قد دخلت في اتفاقات ناجحة مع عددٍ من التحالفات نتج عنها بناء محطات توليد عملاقة بالفعل، حيث بلغ حجم استثمارات القطاع الخاص في نشاط توليد الكهرباء 59.5 مليار ريال، يُوَلد ما نسبته 17 بالمائة من محطات إنتاج الكهرباء البالغ عددها 70 محطة.ثالثاً: أن يمارس القطاع الخاص دوراً اجتماعياً مقنناً وفقاً لنظام تضعه الجهة المعنية في الحكومة، والسبب أن هناك تساؤلا يتكرر: ما الدور الاجتماعي للقطاع الخاص؟ وهل يتوقف الدور على رغبة منشأة القطاع الخاص أم أنه التزام عليها القيام به؟ بالقطع هو التزام على منشآت القطاع الخاص التصدي له، لكن المسئولية الاجتماعية الممارسة لدينا أقرب ما تكون إلى العمل الاختياري منه إلى واجب لابد من القيام به. وحتى يقنن الواجب فلابد من وضع نظام «المسئولية الاجتماعية لمنشآت القطاع الخاص»، فيه أحكام تُقنن، بما يحقق توازنا بين ما تأخذه تلك المنشآت من مجتمعاتها وما تقدمه لها في المقابل.