د. طرفة عبدالرحمن

الموت الصامت..

إن أكبر المشاكل التي يمكن أن تواجه أحدهم، أن تكون مشاكله ذاتية المنشأ، أن يقبع تحت وطأة صراع داخلي مع نفسه ينتهي في أحيان كثيرة بانهزامه أمام معركة الحزن أو القلق أو الاكتئاب والشعور بفقدان القيمة ولذة الحياة.. إحدى صديقاتي كانت تعاني مرضا نفسيا يدعى (ثنائي القطب) ويسمى أيضا بـ (الاضطراب الوجداني) و(الهوس الاكتئابي) وبالمناسبة هو مرض نفسي ازدادت نسبة الحالات المصابة به مؤخرا، وإذا أضفنا على نسبة المصابين به نسبة الحالات غير المرصودة فحتما سيرتفع الرقم.. المهم أن صديقتي لم تكتشف أنها مصابة به إلا في منتصف الأربعينات، حين أخذها أحد أفراد عائلتها في أحد نوبات الهوس التي اجتاحتها إلى طبيب نفسي لأخذ مشورته النفسية فقط، فاتضح من التشخيص النفسي لها أنها تعاني هذا المرض من سنين طويلة! السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هنا هو؛ كيف لم تنتبه هذه المرأة لهذا الاضطراب النفسي في مزاجها وحالتها العقلية كل هذه المدة الزمنية التي عاشتها؟! كيف لم يدرك المحيطون بها من أفراد عائلتها هذه المشكلة النفسية التي عانت منها طيلة حياتها والتي أثرت على علاقاتها الاجتماعية و«القرابية»؟!.. الإجابة ببساطة أن أكثر الناس لا يدركون حقيقة المرض النفسي بصوره المتعددة ولا يملكون الوعي الكافي لفهم أن هناك أمراض نفسية متوسطة التأثير تحتاج إلى متابعة وعلاج ليستعيد المصاب بها صحته النفسية، ما يفهمه أكثر الناس فقط هو تلك الأمراض النفسية الخطيرة التي تفضي بصاحبها إلى سلوك عنف.. وأحيانا للأسف يتم تفسير بعض المشاكل النفسية على أنها مؤثرات عين وحسد أو سحر أو ربما طبع بشري وأخلاق راسخة لا يمكن تغييرها. إن أحد الأسباب التي جعلت صديقتي تتأخر في تشخيص مرضها أنها كانت امرأة ناجحة على المستوى العلمي والعملي، وكانت تدير عملا خاصا بها يدر عليها دخلا عاليا.. إلا أنها كانت تنفق معظم أموالها التي تحصل عليها منه في نوبات الهوس التي كانت تجتاحها.. وصعب على امرأة بهذا الوضع أن تتخيل هي أو أحد من عائلتها أنها مصابة بمرض نفسي يحتاج إلى عقار طبي وليس نصيحة اجتماعية أو نفسية.. تقول لي وبعد أن اكتشفت مرضها وتلقت العلاج المناسب لحالتها، لو كنت تناولت دواء هذا المرض من سنوات سابقة لتغير مجرى حياتي بالكامل ولكن الحمدلله على كل حال، المهم أني تخلصت من نوبات الاكتئاب التي كانت تكبلني على السرير داخل غرفتي أتمنى الموت لأتخلص من حزن وهم عميق لا أعرف سببه. ما يجب أن نفهمه عن واقع المشاكل النفسية، أن المريض النفسي ليس بالضرورة أن يكون مختلا أو مهووسا إلى درجة الجنون أوعنيفا حد الإيذاء حتى نفهم واقعه، بعض الأمراض النفسية تكون متوسطة التأثير على مستوى السلوك لكنها تحتاج إلى وقفة وعلاج.. دواء واحد قد يغير ما لا تتوقعه في بعض الحالات.. مثلا في حالة «اضطراب المزاج ثنائي الاتجاه» العلاج قادر على ضبط مزاج وتفكير المريض إلى درجة لا يمكن تصورها، من ناحية القدرة على الاستمتاع بالحياة والتفكير بطريقة سوية واتخاذ القرارات المصيرية بشكل سليم.. يجب أن ندرك أن بعض الأمراض النفسية ليس لها علاقة بالظروف المحيطة بالفرد وأنها قد تكون جينية في الفرد.. الأذكياء والناجحون ومن يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية جيدة ليسوا بمنأى عن الخلل النفسي وعلى المحيطين بهم التنبه لذلك وأن يهبوا لنجدتهم عند الضرورة. المرض النفسي هو «الموت الصامت» يفتك بصاحبه ببطء شديد ويحيل حياة المحيطين به جحيما.