محمد العباس

أنماط ثقافية متآكلة

المعاني الثقافية لا تنفصل عن المباني التي تحتضنها وترسم آفاق حركتها. وبالتالي فإن أي تحديث في هياكل الأداء الثقافي يستلزم بالضرورة تغيير بنية تفكير الانسان الذي سيتصدى بدوره لعملية التنمية بمعناها الأشمل، وتحرير معنى الثقافة من سكونيته. حيث يلاحظ انخفاض منسوب الوعي بأهمية الصناعات الثقافية، وانعدام أثرها على الفعل التنموي في الداخل وصورة الوطن في الخارج. وعلى الرغم من كل المتغيرات الحضارية الكبرى إلا أن الأنماط الثقافية التي تحكمنا ما زالت على تقليديتها، وكأننا نراوح في ذات المربع الذي يُراد لنا ألاّ نغادره. حيث لا طفرات تجديدية ولا حركة نحو التعددية، لا على مستوى الرؤى ولا على مستوى الاداء. بمعنى أن تثقيف الانسان كهدف من أهداف التنمية لم يعد يشكل أولوية.كل شيء تغير تقريباً في هذا الكون باتجاهات متطرفة وما زال تفكيرنا الثقافي يراوح مكانه؛ لأن ذهنية الخوف والتحريم والمحافظة هي التي تتحكم في مفاصل الفعل الثقافي، حتى بالنسبة لأولئك الذين استجلبوا بعض عناوين الحداثة واستمرأوا ألقابها وامتيازاتها؛ لأنهم ابتنوا تصوراتهم على فكرة الانسان الاجتماعي، الملتصق بالوعي الجمعي، المتنازل عن الذاتية والفردانية. وهذا هو ما يفسر السياقات المتكررة لمجمل النشاط الثقافي، وإعادة تدوير مفاهيم الهوية والذاتية والأصالة والمعاصرة بآليات وأدوات مستهلكة. وكأن التفكير التقليدي، بما هو ثقافة مهيمنة، قد نحت مساره العنيد العميق ليأخذنا باتجاهات باردة، معلومة النوايا، معروفة المقاصد والمآلات.الحداثة ليست ترفاً فكرياً، بل هي حركة مقترنة حد التطابق بالذاتية، وما نلاحظة من ارتباك وتشتت للمحسوبين على الحداثة الأدبية، إنما يشير في المقام الأول إلى تخليهم عن ذاتيتهم. وانسياقهم المعلن وراء الجموع المبرمجة في مختبرات مدرسية، وانخفاض منسوب الحساسية الليبرالية في وعيهم. وهو ما يعني افتقارهم إلى الخصائص الجوهرية الكفيلة بامتلاك حقوقهم، كما تفترض فلسفة الأزمنة الحديثة، التي تؤكد على خاصية الوعي بالزمن، وهو بعد على درجة من الأهمية، إلا أنه لا يتوافر عند القائمين على التخطيط الثقافي، سواء على مستوى التعليم التربوي والأكاديمي أو الحقل الإبداعي.بين آونة وأخرى يتكرر الكلام عن خطط لرفع مستوى مأسسة الفعل الثقافي، وتطويره، ودعمه، وتأهيل مبانيه، وتلك مقترحات مستوجبة ومهمة، إلا أنها لا تعادل شيئاً قبالة الحديث عن إنسان هذه الأرض، الذي يشكل جوهر المثاقفة، وأساس عملية بناء المجتمع الحديث، حيث لا يتم التطرق للمؤثرات التي تشكل وعيه، والممرات التي يعبرها ليشكل صورته عن الوجود وأزمنته الأحدث، وهذا هو بالتحديد ما يفسر رسوخ النظرة البائسة للثقافة، وبطء الحركة في مسارات التحديث الاجتماعي، المتلازمة بنيوياً مع التجديد الثقافي.. فالإعلام يردد بشكل ببغاوي القضايا ذاتها، والجامعات تعيد إنتاج الطوابير العاطلة عن التفكير الابداعي، والمثقف يردد المقولات البائتة ذاتها وهكذا. وكأن الثقافة مجرد عرض بطيء وبارد لأمراض مستعصية، ولا حل لها إلا بأداء فروض الاستسلام وادعاء التنوير.الحديث هنا عن صرح عقلي جديد ينبغي التفكير في ابتنائه لكسر حالة الجمود والتكرار والاجترار التي تبقي على إنسان هذه الأرض في محطة متأخرة. وهو فرض مستوجب لتقويض أنماط الفعل الثقافي البليدة. وذلك التصور يقتضي بالضرورة موضعة الثقافة بمعناها الشامل في مدارات حرة، وإفساح المجال للذاتية بالحركة إلى أقصى حدٍ ممكن، وذلك في إطار تشريعات وقوانين وبرامج وسياقات مفتوحة، تحتم بالضرورة وجود الخبير الثقافي. أجل، الخبير الثقافي القادر على تشخيص أصل العطالة في تنمية الإنسان من منطلقات ثقافية غير منفصلة عن الأبعاد التنموية الأخرى. ومن ثم طرح تصورات استراتيجية تقارب المعضلة في جوهرها، وتنأى قدر الإمكان عن رطانة العناوين البراقة التي ليست من الثقافة في شيء.وهنا لا بد من رد القيم الوطنية العليا مرة أخرى إلى أصول الظاهرة الثقافية. أي ربطها بالمتطلبات الدنيوية المعاشية، التي تجعل من التجريد فضاءً لحركة الانسان. في الوقت الذي تدفع فيه الانسان المثقف إلى تمثل الوجود عبر هذه الممرات. أي طرح الأسئلة المعاصرة الملّحة. وهذا هو جوهر التشخيص الذي يفترض بالخبير الثقافي أن يعمل فيه لتغيير معادلة الأنماط الثقافية المتهالكة. بمعنى تمديد إنسان اللحظة على مسطرة القيم الثقافية التي تشكل خطوة باتجاه التحضّر؛ لئلا يكون كل ذلك الضجيج الثقافي مجرد نفخ في الهواء. إذ لا قيمة لأي صرح ثقافي بدون ذلك الصرح العقلي المتجرئ على التحديق في واقعه واقتراح الحلول الرافلة بالأخلاقي والجمالي والموضوعي والروحي. ولا واقعية لتحديث المباني بدون البحث الجدي عن تغيير بنية التفكير وأنماط الثقافة المتآكلة.