فهد السلمان

إنه زمن الميليشيات العميقة

أضاف أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي، أو كيسنجر التركي كما يُلقب، بمصطلح «الدولة العميقة» للقاموس السياسي مبحثا خصبا وثريا ومثيرا، سيظل المؤرخون والكتاب يحفرون فيه ليكتشفوا الكثير من أسرار بناء الدولة العميقة، خاصة تلك الدول التي تعتمد في إدارتها على الولاءات للأفراد، وليس للوطن بربط مصالحهم مباشرة، وبشكل حاد بوجود الزعيم، بحيث يقتنعون ألا مكان لهم في وطنهم في حال غاب أو فقد سلطته، فهم أشبه ما يكون بأذرع الاخطبوط التي لا تشتبك مع بعضها رغم أن دماغه لا يعرف أماكن تواجدها، لكنها تظل تعمل لصالحه عبر المستقبلات الحسية في مصاصاتها، حتى أولئك الذين يٌفترض أن يأتي بهم تأهيلهم وتخصصاتهم إلى مواقعهم أكثر من ثبات سلامة فحص دمائهم، ومدى مطابقتها لفصيلة دم النظام. هذه الظاهرة تكشفتْ أكثر ما تكشفتْ بعد قيام ما يسمى الربيع العربي، فقد بدتْ تلك الأنظمة وعمالها أشبه ببداوة الترحال في المعيار السوسيلوجي، فما إن أجبرت الثورات القيادات السياسية على مغادرة مواقعها، إما هربا أو زجا في السجون أو قتلا أو حصارا، حتى حزمتْ عناصرها أمتعتها معها، واختفتْ مكتفية بالدور الذي تلعبه العناصر المنتفعة منها من خارج دائرة السلطة، لإحداث البلبلة أحيانا، وأحيانا لمحاولة فتح الثغرات أمام فلول النظام القديم، أو التنكب للنظام البديل وتصيّد هفواته. الغريب أن الأمر اتصل حتى في الثقافة والفن، وهذه من بدع الدولة العميقة، لأن الفن والثقافة في المنطق ليست سلعا، وبالتالي فليس لها سوى عمق واحد، أو هكذا يُفترض، وهو العمق الوطني، لكن الدولة العميقة، ومثلما روّضتْ كل مفاصل النشاط الوطني لصالح سلطة الفرد، فقد تمكنتْ بالنتيجة من تدجين الفنون والثقافة وحتى لغة الخطاب اليومي لتتلون بلون الحاكم، وليس بلون علم البلاد الذي أصبح هو الآخر عرضة للتغيير في ظل انبجاس حمم الدولة العميقة.لكن ما لم يأتِ عليه الدكتور أوغلو في مصطلحه المثير للجدل هو مصطلح الميليشيا العميقة، وأمامنا العديد من النماذج في سوريا وفي لبنان، وفي العراق، وربما غيرها.. لكني سأكتفي بالنموذج اليمني من خلال ما تأكد للجميع بأنه ميليشيا عميقة «بنمرة واستمارة»، وهي ميليشيا علي صالح والذي أوهم اليمنيين على مدى 33 عاما أنه يبني الدولة، وإذا به بعد سقوطه وقد أتم بناء الميليشيا العميقة التي وظف في قيادتها كل أقاربه وأصهاره وأبناء عمومته الذين جيّروا ولاء الجيش والحرس الجمهوري ليكون ولاء مطلقا لشخصه وأسرته عوضا عن أن يكون ولاءً للتراب الوطني، حتى أنه استطاع وبسرعة فائقة أن يعيد اصطفاف الألوية والكتائب التي تتبعه جنبا إلى جنب مع من ادّعى أنه أشعل ست حروب ضدهم، ليقف هو والحوثيون صفا واحدا ضد اليمن واليمانيين، ما يؤكد أنه «لم يكن بينهم وطن» حينما كانوا يرفعون السلاح في وجوه بعضهم.إنه زمن الميليشيات العميقة التي لا تزال تتزيّا بزيّ الدول، وتتسمى بأسمائها، فيما هي تزداد تكورا على ذاتها فئوياً ومذهبيا وحزبيا، وباتجاه مستقبل غامض سيظل ينتج ذات النسخ المشوهة التي تُخلع فلا تنخلع إلا بالموت.