د. فايزة بنت صالح الحمادي

إليكما.. وإن طالت المسافة

تَهُبّ نسائم الرحمة في قلبِ رمضان.. فتمس القلب نسائم تتسلل من وراء الباب.. هو شوق أهفو إليه ولا أراه، منذ أن أكمل والداي رسالتهما هنا، وفرَّا إلى الله.. إلى لقاء عزيز كريم!أتشوَّفُ مجيء أبي قبل صلاة المغرب محملًا بأطايب الطعام وأعاجيب السرور، رافعًا من كيسه بسمة أمل تطلق عنان الحركة في بيتنا الحنون، نضحك حين يأتي فلا نستشعر تعبه، ونتحلَّق حوله، فينسينا الجوعَ مطلقًا.. كأنني أرى أمي تمسح رأسها إجهادًا، واقفة في وسط آنية الطعام نخلةً يستظلُّ بها ابن السبيل، تهفو إلى تزيين المائدة، وإعداد الحلوى، فكأن تعبها ما كان، وترفض أن يساعدها أحد في إمتاع فلذاتها.. لم تكن لتسمح - رحمها الله - بأن ينال أمرؤ شيئًا من سعادتها، حين أقول لها: سلمَتْ يداك! يأتي رمضان، فأفتقد حكمة أبي واحتضانه، تمرُّ أسفاري، فلا يؤنسني غيرُ كِتابٍ أتبرَّمُ وأنا أُقَلِّبُ صفحاته، ويمر التهجُّدُ، فأجد مُصَلَّى أمي خاويًا إلا بقيةَ عبير كانت قد نَسِيَتْه وهي تجهز متاعها، لملاقاة رب كريم.وكنت قد آنستُ من أمي بقية تهوين على فراق أبي، فلما ولّت وجْهَها شطر الصراط، فقدت الاثنين معًا.. أشعر بغصة اليتم فلا أجدها مغايرة لمرارة الوحدة عند طفل صغير ضاع من أُمِّه.. ويحسبُها من فرط جهلِه أنها هي الضائعة!اشتقتُ للتدليل، لتربيتةِ أبي، لمضاحَكَتِه، لتعليقاته الناقدة الرحيمة، ولغَضْبَتِه إن جدّ الجد، ليثًا يدافع عن أشباله، اشتقت للثم يديه، هل يدعني في لقاء الْخُلْدِ أُقَبِّلُهما..؟! اشتقت لاسترشادي به، كنت أطلب نصحه، فأحمّله مسؤوليتي وأمضي، لا يعنيني أي قرار يَنْفَذ، صارت مشكلتي مشكلته، وأنا.. أثق في أبي، سيجد مخرجًا! اشتقت لكرمه الزائد، ولحنانه الفياض، لا يعنيني ما تعطيني الجامعة، وما أتحصل عليه أستاذة، سأظل أنتظر رِيالَهُ المثري، ورَعْدَةً تأخذني عند حديثٍ أتلهفه.. وطمأنتَه لي بأنه دائمًا إلى جواري.. أتحيَّنُ دِفْأَه وصداقَتَنا.. وحديثًا أراه في عينيه وملء فؤاده، وإن فضَّلَ أن يخبئ لي بعضه إلى حين.اشتقتُ لعباءَةِ أمِّي الطيبة، لتجاعيدها القليلة، مؤشرِ هلاكِ ذاتها في ذواتِنا، اشتقتُ أن أدفن وجهي بصدرها، وأحزاني بقلبها، اشتقتُ أن أقول وتستمع، إلى تسكين أوجاعي ببلسم الطعام، كانت تقول: ربِّي يسخِّر لك من هوَ أقوى منك، فأرى معاني العظمة، وكيف أن الأم تُحِبُّ، فتأتي المعجِزة..!أبواي.. كأنني شِبْتُ يوم أنفقتما في بذخٍ آخرَ أيام.. لَمْ تَدَّخِرا منها ساعةَ وداعٍ، خِفْتُما أن يحترِقَ صدري في أَثَرِكما.. صِرْتُ عجوزًا في ثوبِ فتاة.. لا العمرُ أمامها فتطمَح، ولا الدنيا مَرَّتْ عليها فخَبَرَتْ.. حائرة بين الخوف والقلق، وترقُّب المجهول، ولو كنتُ واثقةً بأنه محض خير.لعل قرآنًا أتلوه ليلًا يصل إليكما، فتبتسمان.ولعل دعاء أُدَثِّرُه بالصدق تعرفانه من ابنتكما، فتظنان أن البذرة أثمَرَتْ، وأن القلب محلَّ النسيان، لا ينساكما قدر نبضة!ولعل صدقةً جارية تختَرِقُ السحاب وتدنو منكما رغيفًا طيبًا، تعرفان فيه عجين ابنتكما، وتتذوقان خُبْزَها.ولعلي حين أُطبِق جفْنَيَّ أخيرًا مودِّعَةً دنيا فعلتُ فيها وفَعَلَتْ، وتَنَشَّقْتُ عَبِيرَها وزَكَمَتْ، ولم تُلْهِنِي عن أن لي إلى الآخرة مردًّا، وأنني في محطة انتظار، وقد أوشَكَت الحافلة أن تغادر.. أراكما ماثِلَيْنِ، منتظرانِني على الضِّفِة الأخرى، نكملُ حديثًا مبهجًا قطعته أصابع القدر، وتدلانني على طريقي إلى حسن الجوار، وتكحيل العين بالجلوس إلى أبي القاسم، وشَرْبَةٍ لا يزور الظمأ بعدها ولو متخفيًّا..كونا على اطمئنانٍ بأننا عَرَفْنَا منكما أن نعيمَ الدنيا حينَ تنفشُ ذَيْلَها طاووسًا متكبرًا، ما زال أمام أعينِنا قليلًا.. وأن العمر يزداد كثيرًا، إذا عاشت خِصَالُ الخيرِ فوق ألسنِ الناس وبين دمُوعِهِم، وأن من يُخْلِص يأت الامتحان وهو متلهف غير هيّاب، وأن مَن أحبَّ لقاء الله أحبَّ اللهُ لِقَاءَه.. وأنه لا شيء يَعْدِل بكاء ابنةٍ على نَعِيمِ أبويها، كأنها صارت تقول للدنيا: رُحماكِ بعزيز قوم ذلّ.. رحمكما الله قدر الرحمة والمغفرة والعتق من النار..وظَلَّلَ منزلَكُما بعسفِ الجنَّة، ونخيلها المَوَّار.وسقاكما كما سقيتماني.. عزًّا وكرامة وحسن مخالطة، وثقة مطلقة في رب الأرباب!