حسن السبع

تجميلُ ما لا يُجمَّل

«حتَّامَ أكذب للورى/‏ وإلى متى أتجمَّلُ؟». يتساءل البهاء زهير. غير أنه ليس لكذب البهاء ضحايا. فهو لا يفعل شيئا سوى اختلاق الأعذار لمن يسأله عن أسباب صدود حبيبته، ليظهر للناس أنهما «سمن على عسل». إما لدرء الشماتة، أو للتجمل. وإذا كان للكذب ألوان، كما يقولون، فهذه كذبة بيضاء لا تؤذي أحدا، أما أسوأ ألوان الكذب فهو حين يكذب المرء بقصد إلحاق الأذى بالآخرين، كما يقول جان جاك روسو.في الشأن السياسي يؤيد جاك دريدا وجهة النظر القائلة بأن الأنظمة الشمولية المسيطرة على جوانب الحياة الشخصية والعامة هي أكثر الأنظمة ممارسة للكذب وتغييبا متعمدا للوعي. ولتحقيق أهداف تلك الأنظمة يتم تزوير الماضي والحاضر، فالإنسان المعاصر، وبالأخص الإنسان الشمولي، «غارق في الكذب، ويتنفس الكذب، ويخضع للكذب طوال حياته». «تاريخ الكذب/‏ جاك دريدا/‏ ترجمة رشيد بازي». ويستطيع من قرأ رواية جورج أرويل «1984» أن يتصور المناخ السياسي للنظام الشمولي. حيث يعمل بطل الرواية ونستون سميث موظفا في «وزارة الحقيقة» المسؤولة عن الدعاية، والحقيقة، هنا، هي حقيقة النظام وحده. وكانت مهمة سميث تغييرَ الحقائق التاريخية لتتفق مع توجهات الحزب الحاكم. كانت مهمته تجميل ما لا يُجمَّل. غير أن ذلك لا يعني أن الأنظمة الديمقراطية لا تكذب، فهي تمارس ألاعيب مشابهة أحيانا، وللكذب وجوه أخرى، ففي مجال السياسة الخارجية لتلك الأنظمة، وإذا ما تعلق الأمر بمصالحها، فإنها قد تذرف دموع التماسيح على القيم الإنسانية المنتهكة في مكان ما، وتتنكر للقيم نفسها في مكان آخر وفقاً لما تمليه المصلحة الاقتصادية والسياسية. لكنها أنظمة تتقن «فن الكذب» فلا يبدو كذبا. إنه خليط من الصدق والكذب قد يصل أحيانا إلى حد قول الحقيقة «بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس عليهم تصديقها»! وغالبا ما يقع في هذا «المطب» أولئك الذين يدَّعون الفطنة فيشكُّون في كل شيء. ومن أنواع الكذب خداع النفس، أو الكذب على الذات، وتقبل الإطراء والتملّق الذي يُجمّل ما لا يُجمَّل، فيقلب الأسودَ أبيض، والظلمةَ نورا، والحماقةَ فطنة. وفي غياب النقد الذاتي، لا تسمى الأشياء بأسمائها، فهنالك دائما أسماء أخرى ترضي الغرور، وتدغدغ المشاعر، وتشيع حالات من الرضا عن الذات. وقد يعيش جيل بأكمله تحت ظل كذبة كبيرة، ليكتشف متأخرا أنه كان يلاحق السراب، وليجد نفسه في نهاية المطاف صفر اليدين، بعد أن أُهْدِرت ثرواته المادية وطاقاته البشرية في مشاريع لا تخدم الحاضر ولا المستقبل. كانت الوليمة وهمية والدعوة عامة. وفي غياب الوعي والتفكير النقدي يمكن للكذبة أن تعيد إنتاج نفسها بأشكال وصور مختلفة، ليذهب ضحيتها جيل آخر. في أيامنا هذه تُؤلَّف الكذبة وتنقل في بثٍّ مباشر وبالألوان على شكل فقرة دعائية أو تصريح أو تقرير إخباري أو برنامج حواري. وتساهم التقنية الحديثة في تطور «فن الكذب» عبر التلاعب بالصوت والصورة، وتزوير المكان والزمان، والتخفي الإلكتروني. في أيامنا هذه كل الشهور نيسان «أبريل». وللتعبير عن هذا الواقع رسم بيتر ستينر عام «1993» كاريكاتير لصحيفة «نيويوركر» فكان أكثر كاريكاتير تم تكرار نشره على الإطلاق، ويظهر في هذا الكاريكاتير كلب على كرسي وأمامه جهاز كومبيوتر، وإلى جانبه كلب آخر يقول له: «في عالم الإنترنت لا أحد يعرف أنك كلب»! نعم. في عالم الإنترنت لا أحد يعرف أنك رجلٌ أم امرأة، مستثمرٌ أم محتال، إنسانٌ سويٌّ أم إرهابي. في هذا العالم الافتراضي لا حدود للتنكر.