د. فالح العجمي

اتجاهات الفكر ومدى سلامته

هناك كثير من الاتجاهات الفكرية التي تنشأ في عدد من بقاع الأرض، وتحمل عناصر ومعطيات من الثقافة التي ينتمي إليها أصحابها، مما يجعلها تسير في خط أفقي مستقيم، أو في مسارات متعرجة تهبط وتصعد، تنحني يميناً وشمالاً، وتعود أحياناً إلى حيث كانت. وفي منطقتنا العربية توجد نماذج معبرة في مضامينها عن كل من هذين النوعين؛ وإن كان أكثرها من النوع الثاني، مما يصدق عليه مقولة الحديث النبوي: «كالمنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»! فمن النوع الأول ما ظهر مؤخراً في بعض وسائل الإعلام من أن حركة النهضة التونسية قد قررت أخيراً التخلي عن النشاط الدعوي الديني، والتفرغ للعمل السياسي فحسب؛ وهي خطوة إيجابية تتمثل في كونها اقتنعت، أو ازداد الخط البراغماتي بداخلها الداعي إلى محاولة الحفاظ على سمعتها من الانحدار، إن هي استمرت في ادعاءات احتكار الدين، الذي هو في النهاية ملك للجميع، ولا يحق لأي فئة سياسية أن تدّعي حيازتها لعلاقة الإنسان بربه، وتوجيهه سياسياً من خلال تلك العلاقة. وإن كانت حركة النهضة قد حصدت أصواتاً كثيرة في بداية ثورة الياسمين التونسية، فإنها لم تستطع الحفاظ على ذلك الموقع في الانتخابات التالية، بعد أن استوعب الشعب مدى الضرر الذي سيلحق به إن هو سلّم مقاليد الأمور لأصحاب الحلول الشمولية، الذين لا يختلفون عن النظام الذي ثاروا عليه، إلا في الاتجاه فحسب. أما النوع الثاني، فتمثله بعض أفكار نجدها هنا وهناك؛ يطلقها أناس لا يبحثون إلا عن الشهرة أو المصالح الآنية. وتبعد في جوهرها عن الطابع المؤسساتي، الذي يفترض أن تكون المبادرات المجتمعية مبنية عليه، سواء كانت في هيئات عامة، أو مؤسسات تجارية، أو حتى من مكونات المجتمع المدني ذات النفع العام. وسأورد بعض أمثلة لا أدعي تمثيلها للنسق العام في أي حقبة زمنية أو مجتمع معين؛ لكنها مما ورد إلى الذهن من أجل التمثيل بها لهذا النوع من الاتجاهات الفكرية. أحدها ما كنت قد سمعته في مناسبات متعددة؛ بعضها من خلال اجتهادات شخصية في مؤسسات عامة، وبعضها من تجار في تعاملهم مع زبائنهم من البسطاء الذين يتحلّون بتقدير كبير للقيم الدينية؛ فيأتي أولئك المسؤولون أو التجار لاستغلال تلك العاطفة الدينية لدعم مصالحهم الدنيوية. وما ورد إلى الذهن منها، ما كان أحدهم يحذر فيه المواطنين من فك تشفير القنوات، التي كان يبيع حقوق بثها من خلال باقات يستطيع من يشترك فيها الحصول على نقل تلك المباريات «فهي في ظني كلها رياضية». وكان يضمّن تحذيره ذاك من أن هذا العمل حرام؛ ولست في مجال التقليل من حقه في مقاضاة من يخالف القوانين المرعية في هذا الشأن، لكني مع أن يبقي الأمر في إطاره القانوني، ولا يُدخل الوعظ الديني فيما ليس منه. ومن أمثلة هذا النوع الأخير ما قرأت عنه مؤخراً من أن هناك اتجاها لنشأة «السياحة الحلال»؛ إذ إنه بعد أن انتشرت ظاهرة اللحم الحلال والمنتجات الحلال، أصبحنا نرى تصنيفاً للسياح الحلال، فماذا يمكن أن يعني ذلك؟ الأكل معروف أنه - خاصة إذا كان من اللحوم أو مشتقاتها - يعني أنه مذبوح وفق الشريعة الإسلامية، وكذلك بعض المنتجات، التي يعني مصطلح «الحلال» فيها، أنها خالية من شحوم الخنزير مثلاً، أو الكحول وغيرهما. فهل أصبح السائح سلعة تصنف بأنها حلال أو غير ذلك، أم أن الأمر يتعلق باستغلال للدين من أجل جذب أناس يستهويهم ذلك الملصق؟