د. فالح العجمي

عقلية الصراع الجمعية (1)

كان اللقاء الذي أجراه الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع القيادات الشابة في لندن بترتيب من السفارة الأمريكية هناك، وذلك أثناء زيارته الأخيرة إلى بريطانيا، ثرياً جداً لأولئك الشباب الذين يقابلون زعيماً عالمياً من الطراز الأول، ويتناقشون معه في أمور حياتية بسيطة، ويتبادلون أفكاراً بشأن مستقبلهم، وفلسفة الحياة الحديثة وطرق الترقي فيها، والاستمتاع بالقدرات الذاتية من أجل تحقيق الأهداف المرسومة. وكانت موضوعات النقاش المطروحة في لقاء الرئيس أوباما مع ذلك الجمهور المنفتح على الحياة شديدة الحيوية وشاملة لكل الجوانب المهنية والإنسانية والفلسفية المرتبطة بعدد من تلك الجوانب. حيث تنوعت من سؤاله مباشرة عن انطباعه عن السنوات، التي قضاها في البيت الأبيض، ومدى رضاه عما قدمه خلالها، على المستوى الشخصي والمهني، ودوره في السياسة العالمية، إلى نصائحه بشأن مستقبلهم المهني ومدى استفادتهم من رؤيته للتحولات العالمية، التي تصنع الحاجة إلى القيادات الشابة في بعض المجالات أكثر من غيرها. لكن إحدى قضايا تلك الأمسية كانت تتعلق بشأن شائك في عالمنا المعاصر؛ هو أسس التنافر الحاصل بين الكتل الثقافية الكبرى في العالم، خصوصاً بين ثقافة الغرب والثقافة الإسلامية، إضافة إلى بعض الثقافات المنغلقة على نفسها في بقاع العالم المختلفة. وقد سماها الرئيس في طرحه «عقلية الصراع»، إذ تمثلت هذه الأزمة الذهنية - من وجهة نظر هذا السياسي المدرك لقضايا العالم الفلسفية - في كون كثير من الأفراد الخاضعين لسطوة الثقافة القائمة على ذلك المبدأ ينصاعون لهيمنة الفئة التي تسيّر دفة الصراع، وتؤجج مشاعر النفور من الآخر المختلف، مهما كان اختلافه عن أصحاب المصالح الفئوية في المجتمع. واسترسل الرئيس في تصوير الحالة الذهنية لأولئك الأفراد، بأن أحدهم يحدّث نفسه، بأنه يريد أن يكون مهماً، فبالتالي يسعى إلى الدفاع عن مكوناته العرقية والدينية المحدودة، لتعظم مكانته عند المحرضين لما يندرج ضمن عقلية الصراع. فهم أصحاب الأصوات العالية في الساحة، ومهما كان عددهم صغيراً، فإن أثرهم يكون كبيراً، وأتباعهم الذين لا يراجعون مقولاتهم في تزايد مستمر، كلما انتشر في تلك المجتمعات، أن الصراع مع الفئات الأخرى المختلفة يولد قوة ومهابة، ويجعل الثقافة الذاتية تقوى وتبقى وربما تسيطر. واستعرض الرئيس بعض المناطق في العالم، التي تسود فيها تلك العقلية، وتتصاعد قوتها بأثر من إرث تاريخي طويل. فكانت أمثلته تتناول أفريقيا والشرق الأوسط وإيرلندا الشمالية وبورما؛ وهي المناطق التي تعرضت لنزاعات مريرة استمرت عشرات السنين، وكانت الثقافات فيها متخاصمة بعضها مع بعض. ففي أفريقيا لا يكاد يوجد محيط ثقافي في كل ركن منها، إلا وتتعالى فيه صرخات استعداء الثقافة المجاورة، وادعاء دحرها، وربما لم يكن الاستثناء من ذلك التشتت في هذه القارة، إلا في جنوب أفريقيا، بعد صراع العنصرية الشديد، الذي قضت عليه روح التآلف التي قادها الراحل العظيم نيلسون مانديلا، وأيدها المجتمع الدولي بقوة، مما جعلها واحة استقرار سياسي ووئام اجتماعي بين فئاتها المختلفة. أما الشرق الأوسط، فهو واحد من بؤر التوتر بين الحضارات المختلفة منذ فجر التاريخ؛ فلا غرابة أن تزدحم عقول المنتمين إلى كل فئة بمدى تميزها ودونية الآخرين. وفي كل من إيرلندا الشمالية وبورما تتشابه الحالتان في كون المنطقتين ذات تاريخ حافل بالعنف في العصر الحديث، فكان التنافر ناشئاً عن التحزب لأي من الفرق المتناحرة. وفي الجزء الثاني سيكون الحديث مرتكزاً على رؤية محلية تتقاطع مع رؤية الرئيس أوباما في ذلك اللقاء، ولكن منطلقاتها نابعة من تحليل البنية الفكرية للجماعات البشرية بأثر من الثقافة.