سيف الرويبعي

سعد بن جدلان.. الظاهرة الشعرية!!

لم يكن ثلاثاء التاسع عشر من رجب؛ يوما عابرا في تاريخ الشعر النبطي؛ فعند عتبته انطفأ سراج الشعر وتوشح السواد؛ وترجل فيلسوف الشعر وعبقريه؛ وتعطلت بعده رحلة الحرف والكلمة العذبة؛ واسدل الستار على نهاية أسطورة شعرية؛ نعم كثيرون هم الراحلون عن دنيانا! والقليل منهم من ترك بصمة مؤثرة في وجدان الناس وعقولهم؛ وأكثر المؤثرين وأحد النادرين في شعره وخُلقه؛ هو شاعرنا (ابن جدلان) رحمه الله؛ الذي فقده جمهور الساحة الشعرية بامتداد خارطة الوطن العربي؛ فكم هو مفجعا رحيل العمالقة؛ وكم هو محزن غياب عرّاب الساحة الشعرية ورقمها الصعب؛ فكأن الموت يتربص بالنخبة المبدعة ويترصد للرموز المضيئة؛ فما اصعب الفقد وما اقسى رحيل الرواد؛ والأصعب منه أن تفتش في مخزونك من مفردات اللغة؛ فلا تجد ما يسعفك للتعبير عن وصف مكانة الراحل وألم فراقه؛ وانت ترقب ذلك الطوفان من العبرات والاحزان والتعازي؛ فالجميع يعزي الجميع؛ في وداعية فقيد من فئة الكبار؛ ورمزا من الزمن الجميل؛ سيطول الزمان ليجود بمثله!!كانت بيشة ولازالت ولّادة للمبدعين وبيئةٌ توارثت الابداع؛ فلم يكن (بن جدلان) القادم من عمق الجزيرة؛ إلا امتداداً (للبياشه) عبدالله ابن الدمينة وابن همام السلولي؛ فقد سبقاه بنقش اسميهما علي جبين التاريخ الشعري؛ واصل (بن جدلان) نهج اسلافه؛ فكان قدوة شعرية وشاعرا استثنائي؛ كرس حياته خدمة واخلاصا لهِوايته الشعرية؛ فبملكته الشعرية وبكاريزماه الخاصة؛ اخرج الشعر النبطي من رتابته ونمطية بنيته المستنسخة؛ فكل قصيدة كتبها هي واحدة من عيون الشعر النبطي؛ فوجوده حفظ للشعر هيبته وقيمته وتوازنه؛ فكان ولازال (ترمومتر) للذائقة الشعرية؛ فكل شاعر يقيس شاعريته ونتاجه بالمقياس (الجدلاني)؛ رحل (بن جدلان) وترك ارثا كبيرا وبصمة شعرية فريدة؛ جعلت بينه وبين قرناءه مسافة ابداعية كبيرة؛ وأهلته ليتربع على عرش إمبراطورية الشعر النبطي!! ولد الشاعر(بن جدلان الأكلبي) في قريته الحالمة(الشقيقه) شمال بيشة؛ عاش شامخا كريماً يستلهم شموخه وكرمه من نخلته الباسقة؛ وهناك حيث الاصالة والهدوء بزغ نجمه الشعري؛ كان (شاعر الوصف) كما يحلو لخالد الفيصل تسميته؛ يكتب ابياتهعند (مراح إبْلِه) بعيدا عن الاضواء والضوضاء؛ وما ان تنتهي حبكته الشعرية حتى طار بها الركبان؛ وحملها الاثير لعشاق روائعه؛ بدون وسيط ولا منّة اعلامية؛ فلم يكن (بن جدلان) صنيعة اعلامية لشاعر كرتوني؛ ولم يقف يوما بأبواب الإعلام ليستجديه ويتزلف لمنسوبيه؛ فبالشعر الحقيقي فرض نفسه على خارطة الشعر العربي؛ ورسم لها مساراً ابداعياً مغايرا؛ فمشواره حافل بالثراء والتنوع الشعري؛ وشعره مترع بالجماليات والإبداع الذي نثره اينما حل؛ فكم يأسرنا (بن جدلان) بما يبتكره في قصائده من صور بلاغية وجمالية مبهرة؛ والمتذوق للشعر لا يجد صعوبة في تميز قصيدة (بن جدلان) عن غيرها؛ فبالإضافة لجزالة اللفظ ودقة الوصف؛ نجد الجمال كله والميزة الحميدة؛ في ذلك الزخم الروحاني وعبق التوحيد؛ الذي تتزين به نواصي قصائده؛ ولأنه شاعر صاحب مبدأ؛ جعل من شعره سفيرا لأخلاقيات الشعر ونموذجا للتسامح؛ فنأي بشعره بعيدا عن البذاءة اللفظية؛ ولم يجعل منه ساحة للكراهية وقنابل عنقودية يمطر بها خصومه؛ ولم ينزلق لحضيض العنصرية القبلية والمناطقية؛ بالطريقة المقززة التي انتهجها كثيرون؛ هكذا هو (بن جدلان) وهكذا هي اخلاق الفرسان!!سبق الموت تكريم الوطن لهذا الجهبذ؛ بعد مشوار شعري مشرف؛ والمملكة سباقة لتكريم ابنائها المبدعين؛ ولا أقل من تخليد لأسم خدم موروث الشعر النبطي؛ وتجاوز به حدود الوطن؛ أن يوضع اسمه على جائزة ادبية؛ أو شارع او ميدان من ميادين المملكة!!