وليد السليم

عين «أم سبعة».. حكاية الأنهار الأحسائية السبعة والرحيل المر

في نهاية التسعينيات الهجرية.. بعد صلاة الفجر وقبل الشروق بقليل تتحرك سيارة (الفولكس واجن) موديل 1973م، باتجاه شمال الأحساء وفي الطرق الزراعية المتعرجة والمظلمة يخيم السكون على مزارع (السحيمية) الكائنة شمال مدينة المبرز بالأحساء، الهدوء الكامل سمة المكان الغالبة عدا زقزقة العصافير وتغريد البلابل والصوت الرتيب لمضخات عيون مياه البساتين المسماة (بلاك ستون)، تواصل السيارة الصغيرة تحركها في وقت يكون فيه الركاب بين نائم ومتثائب ومتأمل، بعد سير لمسافة تقارب الثلاثة الأميال تقترب السيارة من العين فيزداد ضجيج تدفق الماء وجريانه ويلوح في الأفق البخار المرتفع من سطح مياه العين الساخنة، تتوقف السيارة فينزل الأطفال بتثاقل وكسل، يبدلون ملابسهم ويحملون معهم الصابون المعطر وشامبو الحناء الأحمر وليفة خشنة، ينزل الطفل من الدرج اللزج ليصل إلى الماء الذي يرتفع فيغطي حوض العين الكبير ودرجها المغطى بالحجارة الصلدة حتى النصف، ينزل بالتدريج في الماء الساخن يشعر بدفء رجليه المغمورتين وفي ذات الوقت يحس بقشعريرة في نصفه العلوي نتيجة لمرور نسمة باردة شاردة لامست جسده المكشوف، يغطس بجسمه كاملاً في الماء الساخن ثم يتحرك تجاه العين السوداء الفوارة المغطاة بشبك حديدي يعود إلى موقعه فيتبادل الحديث والضحكات مع أقرانه، يشعر حين الاقتراب من درج العين وحافة الحوض بدغدغة الطحالب الخضراء الملساء وقرصات (الحراسين) وهي الأسماك البالغة الصغر، يتحدى الأطفال بعضهم فيمن يقفز من المصطبة العلوية إلى العين فيتسابقون بحركاتهم البهلوانية التي تنتهي بالغطس العميق، متعة لا تضاهيها متعة تنتهي بعد ساعتين متواصلتين من السباحة وشوق للعودة في يوم خميس قادم.كانت هذه العين هي عين (أم سبعة) وهي واحدة من عيون الأحساء، التي تربو على تسعين عيناً كما يذكر المؤرخون والمؤلفون الأحسائيون وعنها يذكر القاضي والمؤرخ الشيخ محمد بن عبدالله آل عبدالقادر المتوفى سنة 1391هـ في كتابه تحفة المستفيد، أن عين أم سبعة سميت بهذا الاسم (لأن ماءها يجري في سبعة أنهار من منبعها وماءها حار شديد الحرارة لا سيما في أيام الشتاء، وهو في غاية الصفاء والعذوبة، غزيرة الماء قوية الجرية تحف بها كثبان الرمال الأحمر الناعم غرباً وشمالاً والنخيل شرقاً وجنوباً في واد أفيح يفد إليها الناس في أيام الشتاء للاغتسال والنزهة، وقال فيها المؤلف رحمه الله:رعى الله يوماً قد طوينا نهاره /‏ بكثبان رمل زينتها الجداول تجود عليها دائماً أم سبعة /‏ بماء كبلور جلته الصياقل يزيد على برد الشتاء توقداً /‏ كأن بذاك الماء تغلو المراجل كأن جموع النخل في عرصاتها /‏ صفوف عذارى جملتها الغلائل ) اهـ.الأسبوع الفائت تحركت بي السيارة تجاه عين أم سبعة فلم تكن السيارة هي السيارة ولا الطريق هو الطريق ولا العين هي العين ولا الصحب معي، كنت وحيداً حين اقتربت من العين، انثالت ذكريات لا تنسى، لقد جفت العين وغار ماؤها فأصبح الماء يسحب منها بالمضخات، رأيت الأنابيب والمضخات تنتهك قلب العين الدافقة تماماً كأجهزة التنفس والإنعاش القلبي لمن يشارف على الهلاك.ورغم ذلك فما زالت العين كريمة تجود بمائها العذب الصافي الذي لم يتوقف فيصب في ذلك الحوض الواسع ثم ينساب إلى قناة واسعة لري النخيل المجاورة، كرم العين من الماء المتدفق حتى اللحظة أتراه دموعا حرى من العين في زمن الاحتضار؟!التقطت صوراً للعين وهي في ثوب حدادها وأرسلتها لشاهد على العين وذكرياتها هذا الشاهد الذي باعدته المسافات عنها لعقود طويلة فرد علي بهذه الرسالة: (الله أكبر وكأني أسمع خرير مياهها العذبة، تلامسني (حراسينها) وتقشعر أبداننا من ذكريات عشناها بطفولتنا.. كبرنا ولكن ذاك المكان ما زال يعتقلها في سجن مؤبد بعد رحيل من كانت عنده مفاتيح كل الحكايات.. وتتساقط حبات اللؤلؤ!)