د. فالح العجمي

أسباب مشكلاتنا الاجتماعية والنفسية (1)

كثير من الناس عند سماعهم أو نقاشهم مشكلات المجتمعات بصورة عامة أو بعض فئاتها بصورة خاصة، يفكرون في تداعيات القرارات الكبرى في حياة الناس، ويفتشون عن مسببات ذلك في قضايا السياسة والاقتصاد. فأول ما يتبادر إلى أذهان أغلبهم أن هناك أشياء من المؤثرات الخارجية، وآثارا من قرارات المؤسسات العامة في الداخل، هي التي تصنع تلك المشكلات، أو تساعد في حلها أو تقليصها إذا وجدت بأي صورة من الصور.لكن القلة من الناس يلتفتون إلى ما أثبتته دراسات كثيرة من أن أغلب مشكلات المجتمعات قديماً وحديثاً هي ذات أسباب لغوية؛ فاللغة تتغلغل في ذوات البشر على المستوى الفردي لتصنع منه كائناً متقبلاً لدرجات من التأثر، وقادراً بدرجات مختلفة على التعامل مع ما ينشأ من مشكلات أو تصور لوجودها، أو قدرتها على الحد من حركته أو مقاومته لآثارها فيه، مما يجعله متأثراً نفسياً بقدر استطاعته التحرر من هيمنتها؛ وهذا التحرر يحتاج إلى قدرات ذهنية تحركها اللغة أيضاً. كما أن اللغة من جهة أخرى تصنع الثقافة التي ينطلق منها المجتمع في الحكم على الأشياء، وتضخيم القضايا أو وضعها في الحيز الذي يتناسب مع حجمها، أو حتى تصغير بعض الأمور الأخرى التي تستحق موضوعياً شيئاً من الاهتمام. عندها يصبح المجتمع المعين مسكوناً بحل تلك المشكلات المحددة التي كبّرتها ثقافته بأثر من لغتها التي تلح عليها في مواقع مختلفة، وفي مناسبات متعددة من مراحل تربية الصغار وتعويد الكبار على أنها كذلك.سأذكر أمثلة على ذلك التأثير اللغوي في مجتمعنا المحلي؛ سواء على المستوى الفردي أو على مستوى البيئة الصغيرة أو المجتمع الكبير. ففيما يخص تربية الصغار، نجد أننا نظلم الأطفال الذكور بكبتهم عن ممارسة طفولتهم في كثير من الأحيان؛ وأغلب وسائل الظلم هذه تأتي بوسائل لغوية محفوظة، وتردد على مسامعهم في المنزل أو المدرسة أو الشارع. ومن تلك العبارات المستخدمة: «الرجال ما يبكي»، حتى لو كان المخاطب طفلاً لا يتجاوز السادسة أو السابعة من عمره؛ علماً أن البكاء وسيلة طبيعية لخلق التوازن النفسي لدى الإنسان، عندما يحس بالألم الشديد، سواء كان مصدره حسياً أو معنوياً. ثم نستغرب ألا يكون لدى بعض شبابنا بعد أن يكبروا التوازن النفسي الذي يحتاجه المرء، ليكون طبيعياً في تصرفاته وحكمه على الأمور.وعلى مستوى تعامل الكبار بعضهم مع بعض، نجد اللغة مؤثرة في خلق الطبقية المعرفية، والتي يراد أن تصاحبها منزلة اجتماعية قد لا تكون مستحقة. تتمثل تلك التعاملات من خلال عبارات تصبغ أغلب حواراتنا، خاصة عندما يحتد النقاش، أو يكون المرء في أمر غاية في الجدية؛ ومن تلك العبارات: «خلني أعلمك» أو «أعلمك الصح»، ومثلها من الافتتاحات التي قد تصنع في اللا وعي، أن الآخرين هم الذين يعلمونني، ولا يطرحون آراءهم فحسب، أو إنهم هم الذين يقولون لي «الصح»، وكأن ما أقوله أو أراه لا بد أن يكون في خانة الخطأ. إضافة إلى أن مستخدم ذلك الخطاب ربما تصور أن أقواله دائماً صحيحة، وأن عليه دائماً أن يجتهد في إيصالها إلى الآخرين، لكي يعرفوا الطريق السليم، وأن ينصحهم باستمرار، وقد يصل به الحال إلى أن يظن أنّ عليه أن يتطفل بدخوله في نقاشات دائمة مع الآخرين، ليمنعهم عن الضلال مهما كانت علاقته بهم، وبغض النظر عمن يوجه هو إليه خطابه؛ إذ قد يكون هو أعلم منه كثيراً أو أكبر منه سناً وأكثر تجربة في الحياة.