مشاري العفالق

سد العقول وتبرير الحماقة

وصلتني انتقادات كثيرة حينما انتقدت سلوكيات أحد الدعاة المؤثرين في التلميح إلى تكفير فئات في المجتمع أو التوصية بمتابعة متطرفين يدعون مثلاً لإعادة الخلافة أو الطعن في شرعية الدول بالمفهوم المدني المعاصر وهي فكرة تقارب إلى حد كبير ولاية الفقيه وكلتا الفكرتين تبرران تصرفات الجماعات الإسلامية المتطرفة.بعض الآراء كانت صريحة بأن شيخاً يستميل الشباب لا يجب أن يُنتقد لأنه محبوب لدى فئة عمرية معينة وبالتالي فإن انتقاده هو نوع من الاصطفاف ضد أهل الدين إلى آخر التبريرات التي ترسخت منذ فترة طويلة من الخلط بين الإسلام والأشخاص وبين الالتزام بتعاليم الدين والعصبية.هذه المعالجة تستدعي التأمل والتساؤل هل المطلوب أن نُرضع أبناءنا أفكاراً غير صحيحة ونبيعهم بثمن بخس لرغبات المتطرفين والمزايدين على ما قال الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، أو نضحي بقيم الوطن للإسلام لمجرد أن هذا الشخص ملتح ولديه الكثير من المتابعين بعد أن استثمرت وسائل الإعلام في تلميعه لسنوات طويلة.في نظر هؤلاء فإن السكوت عن حماقات ترتكب باسم الدين يمكن تبريرها بأنها سد لذرائع من يريدون الإسلام ورموزه بسوء ودرء لمفاسد أكبر وهي عزوف الشباب عن الدعاة إذا ما أحسوا بخيبة أمل في بعض الأشخاص الذين يمتلكون الكاريزما والشعبية.فهل نسكت عن سلوكيات خطيرة من قبيل دعوة الشبان الصغار إلى الجهاد وإعادة رسم الجغرافية واستحضار التاريخ الذي لا يوجد له سياقات في عصرنا الحاضر، أو اختصار صورة الإسلام الذي مثل ثورة حضارية قيمية عالمية في عصابات تقتل بدم بارد وتبرر جرائمها بغايات نبيلة هي أبعد ما تكون عنها.هذا السياق الذي ينطلي على المجاملة والسكوت خوفاً من المفاسد التي تعمل على نقد بعض الدعاة يفضي أيضاً إلى تبرير مفاسد بالجملة وخروج عن القيم الإسلامية في حالات وقعت بالفعل مثل الكذب والخيانة والغدر وبهتان وظلم الآخرين فهل يتم تبرير هذه السلوكيات من أجل خاطر فلان أو علان مع أنها لا تستقيم حتى مع الفطرة السليمة.هذا المنهج في التفكير الداعي للاستسلام إلى السلبية والتوجس من التفكير المستقل وسد العقول تحت ذريعة سد الذرائع، وتقديم العصبيات التي تجاوزها الإسلام والمعاملة بالمظهر على حساب الجوهر الذي هو قيم الإسلام وتعاليمه، هو بمثابة تسويق لسلعة مغشوشة لا يمكن أن تتواءم مع الحضارة، وفي الوقت ذاته لا تنسجم مع التعاليم الدينية الصريحة.أليست هذه السلبية هي المسؤولة عن منع المجتمع من تطوير نموذجه الخاص الذي يمكن أن يسهم في قضايا الثقافة والفنون والإعلام والتعليم وغيرها، وبينما نحاصر تلك الأفكار الجديدة والخلاقة التي تنسجم مع معطيات الحضارة المعاصرة وتقدم للمجتمع إضافة حقيقية، نتناسى أن المجتمع تحول بفعل مصادرة حقه في الابتكار إلى مستهلك للثقافات والفنون والسينما وغيرها والتي ينتجها العالم دون قيود.إعادة رسم المستقبل الذي تبحث عنه المملكة اليوم بدءًا من القيادة العليا إلى أي مواطن يريد أن يعيش مطمئناً على هذه الأرض لا يمكن أن يتم إلا بتعزيز تجربة المملكة الداخلية وتطويرها حضارياً وتعزيز روابط المواطنة وتحفيز البناء والتقدم، ولو تطلب ذلك إعادة تقييم الكثير من الأفكار المعلبة التي كانت وما زالت متداولة في المدرسة والإعلام ومؤسسات القضاء وغيرها منذ عقود.علينا أن نفهم ما أعقب الحرب الباردة من أحداث متلاحقة وتحديات حضارية وتقنية ودروس إقليمية مؤلمة على أنها مؤشرات لضروة مراجعة الأفكار المتداولة في منهاج التعليم، وفي الأسرة وفرز ما هو متطلب شرعي وقيمي وما هو متداول من باب سد الذرائع والعصبية ومجاملة للأشخاص على حساب القيم.من الجيد الغيرة على من يظهر في صورة المنافح عن الإسلام لكن الأهم هو إعادة تشخيص الأمراض المجتمعية التي تحتاج إلى علاج وفهم السياق العالمي الجديد وما يمكن أن يسهم من خلاله المجتمع بعيداً عن التنطع والذي غالباً ما يؤدي إلى تشويه الدين واستنساخ تجارب لا تؤمن بخيارات الحضارة.