د. محمد حامد الغامدي

«المجرم»

أعطت الحرب الكونية الأولى درسا قاسيا للبشرية.. ضاع في سماء الدنيا.. مع الدماء على الأرض. وفي الحرب الثانية.. كان (هتلر).. حقق خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه إنجازات لا يصدقها عقل.. كان يفتتح يوميا مشروعا وإنجازا جديدا.. حملته الإنجازات نحو الغرور.. انتحر.. بعد أن قتلت الحرب (50) مليون نفس.. حاكم المنتصرون قادته.. صدرت أحكام إدانة.. سجل هتلر بهزيمته درسا آخر لم تتعلمه البشرية.. ذلك لأن مجرم الحروب لم يمت. تلاشت مصائب الحرب الأولى بقيام الحرب العالمية الثانية.. سحب نتائجها ما زالت منتشرة.. تنتظر حربا ثالثة لتبديد مصائبها.. ستكون أكثر ألما ومرارة وفحشا.. هل ستأتي الحرب العالمية الثالثة؟! سأسمح لنفسي بالإجابة.. اعتمادا على سيرتي الذاتية، يغلب عليها صيغ الاستماع ومعادلاته، لن يكون هناك حرب عالمية ثالثة.. المجرمون استوعبوا الدرس.. حروب صغيرة تكفي لتجاوز حرمان مجرم على حساب مجرم آخر.. في قاموسهم الجديد، كل المجرمين يجب أن يعيشوا ويستمتعوا بنتائج الحروب التي يشعلون.سؤال آخر تطرحه سيرتي الذاتية أمام نفسي.. هل سيصبح الكون بلدا واحدا بعاصمة واحدة؟! هذا الحل الأمثل لاختفاء الحروب.. عندها سيتم تجهيز جيش عالمي.. لكن ضد من؟! سيجد المجرم عدوا خارج الكون.. عدوا يمارس عليه هوية القتل والتدمير للنفس البشرية.. المجرم سيظل على الأرض إلى يوم القيامة.. المجرم قد يكون الاقتصاد.. قد يكون السياسة.. قد يكون المصالح.. قد يكون الإنسان جامع كل هذه التوصيفات.. لكن الديانات لا يمكن أن تكون طرفا في الجرم.. رغم أنها محوره.الإنسان قتل أخاه.. وقف عاجزا عن التصرف بجثته.. جاء الغراب ليوحي بطريقة الدفن.. ورغم ذلك.. هناك من يحرق الجثة.. فكيف تعلّم الطريقة؟! هناك من يتركها للطيور الكاسرة.. فكيف تعلّم الطريقة؟!.. في آخر الزمن، تم رمي الجثة في البحر.. فكيف تعلم الطريقة؟! إذا حصل القتل لا تهم طريقة التخلص من الجثة.. ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟! أين اختفت جثث (50) مليون آدمي في الحرب العالمية الثانية؟!في المرحلة المتوسطة بدأت أكتب مواضيع تعبير عن الحروب وقادتها.. كتبت موضوعا عن (هوشي منّه).. القائد الفيتنامي.. قرأته أمام طلاب الفصل.. كتبت موضوعا آخر في نفس المرحلة عن المناضلة (فاطمة البرناوي).. واستمعت إلى مقابلة الطيار العراقي الأسير (عارف عبدالرزاق) في إذاعة اسرائيل بالعربية.. كان ذلك في حرب نكسة (1967م).. ما زلت كطفل أذكر أنه قال: في حال إخلاء سبيلي سأعود لضرب اسرائيل بالطيران.. كان وقت اندلاع الحرب في السجن.. عقوبة على قيامه بثورة فاشلة على خاله عبدالسلام عارف.. طلب إخلاء سبيله ليشارك في الحرب.. شن (49) غارة.. في الأخيرة سقطت طائرته.. وتم أسره.. بقي هذا الاسم معلقا في خاطري إلى أن شاهدته قبل سنوات في برنامج الجزيرة (شاهد على العصر).. تابعته حتى ارتويت من رؤيته.. اختزلت كل المقابلة في جملة قالها: (لا أريد تلويث لساني بكلمة خيانة).المرحلة المتوسطة في حياتي سيرة عظيمة.. نسجها أستاذي (عثمان الشاعر).. شق طريقي نحو الحياة بكل قوة، وتحد، وثقة، واقتدار.. كنت أخلق المشكلة لنفسي لأتجاوزها بنجاح.. كتبت أيضا عن موائد عبدالسلام عارف في رمضان، بشوارع بغداد.. ثم جاء التغيير فكانت العراق موطن الإعدامات والخيانات والاتهامات.. سمعت أصواتهم من إذاعة بغداد.. تسب بلدي.. تتهمه بكل الألفاظ التي لا تليق.. مع ذلك وقفت المملكة تدافع عن العراق، وشعب العراق، وما زالت.. هذه حربها ضد داعش بطائراتها ورجالها ومالها وجهدها.في المرحلة المتوسطة قرأت كتاب هتلر: (كفاحي).. قرأت كتبا كثيرة.. أهمها: كتاب المنفلوطي (ماجدولين).. قصة عاطفية عصفت بخيالي.. أحرقت قلبي.. استنزفت دموعي.. هكذا تكون نتائج عاطفة الشاب الطري عودا ومبدأ واتجاها.. هكذا يأخذ الأشرار والمجرمون الشباب الطاهر إلى مهاوي الردى.. يأخذونه بالعاطفة.. شعارات يرفعونها.. موجهة نحو حاجات الشباب.. ولكثرتها يسهل استغلالهم.. حاجات عاطفية.. حاجات اقتصادية.. حاجات دينية.. حاجات وطنية.. ويمكن للمجرم خلق أي حاجة أمام أي شاب ليستولي عليه.سيرتي في المرحلة المتوسطة تؤكد أن أحد أهم مصادر معلوماتي كانت الإذاعة البريطانية (BBC).. كنت أتابعها يوميا بشكل دقيق ومنتظم.. كنت أعرف أنها أداة استعمارية.. لكن كنت أبني نفسي.. أعدّها للتفكير والتحليل والاستنتاج.. ما زالت إذاعة بنفس الدور والتوجهات.. ستظل كذلك.. لأن مجرم المعارك والحروب لم يمت بعد.. هل عرفتموه؟!