أ. د. عبدالله العبدالقادر

سقوط طائرات الروس وفوضى الخيارات

تباعا لما أفردت له الحديث في الأسبوع المنصرم عن قمة العشرين وشبح الإرهاب وميزان العدل وما أشرت له من صعوبة الموقف الروسي من تداعيات سقوط الطائرة المدنية على أرض سيناء المصرية وتداخل المواقف مع بعضها البعض لما أسس له الروس أصلا من إرث لا يحمد في دعم الحكم في سوريا ووقوفها مع رئيسها المكنى بالأسد، وما هو بأسد، وما دعوت إليه من ضرورة خروج الروس مع الفرنسيين والغرب عامة بنظرة شمولية متوازنة للأمور بعيدا عن مبدأ العلوية العسكرية والاقتصادية، وفي وسط هذا الجو المضطرب من تدافع الخيارات وتعدد الاحتمالات من تهدئة مطلوبة إلى تصعيد مرتقب، في وسط كل هذا خرجت لنا وسائل الإعلام مؤخرا بتصاريح من مسؤولين عسكريين أتراك تفيد بأن طائرات حربية تركية من طراز F-16 أطلقت النار على طائرة حربية مجهولة الهوية بعد تحذيرها 10 مرات خلال 5 دقائق بشأن انتهاك المجال الجوي التركي والتي تبين في ما بعد أنها مقاتلة روسية من طراز سوخوي 24، وسقطت الطائرة الروسية في منطقة جبلية في ريف اللاذقية استهدفتها الطائرات الروسية في وقت سابق، وهي تشهد اشتباكات بين قوات النظام ومسلحي المعارضة. ويجدر التذكير للأهمية هنا أن أنقرة قد أبدت استياء كبيرا الشهر الماضي ومبعثه أن طائرة روسية عبرت حدودها وإن طائرات تركية من طراز إف-16 قد اعترضتها وإن طائرتين تركيتين تعرضتا لمضايقات من طائرة مجهولة الهوية من طراز ميغ-29، ومن المعلوم أنه في وقت سابق نفذت الطائرات الروسية مئات الطلعات الجوية في شمال سوريا منذ سبتمبر. وتقول موسكو إنها تستهدف «إرهابيين» فقط، لكن نشطاء يقولون إن غاراتها تضرب أساسا جماعات معارضة يساندها الغرب، وكانت تركيا، وهي من أشد منتقدي الرئيس السوري بشار الأسد، قد حذرت من انتهاك الطائرات الروسية والسورية لمجالها الجوي المتكرر وكما هو متوقع من غطرسة الدب الروسي التي تأتي هذه المرة في مواجهة الرأس التركي العنيد كما يحلو للأوروبيين وصفه بعدة لغات وهو إرث أتى تباعا لدك آل عثمان أركان أوروبا قبل وقت ليس ببعيد.ويرى المراقبون الدوليون أن إسقاط الأتراك للمقاتلة الروسية يعد منعطفا قد يدخل المنطقة في أتون مواجهة لا تحمد عقباها، خصوصا أن الجانبين التركي والروسي يصران على صحة موقفيهما. كما يبدو من خلال سيل المعلومات المتناقضة والمتضاربة التي نشرها الجانبان، والعامل المشترك لها، أنهما مصران على إلقاء التهمة كل على الآخر، ففي حين يصر الأتراك أنهم أسقطوا المقاتلة بعد خرقها الأجواء التركية، ويؤكد مسؤول تركي أن طائرتين روسيتين اقتربتا من الحدود حيث أنذرتا مرارا ثم أطلقت النار على إحداهما، في حين تؤكد روسيا أن طائرتها لم تغادر الأجواء السورية وقد نشر الجيش التركي صورا قال إنها تبين خرق المقاتلة الروسية أجواء بلاده، أما وزارة الدفاع الروسية فأكدت أنها تستطيع إثبات أن طائرتها كانت في الأجواء السورية، والأمر بلا شك يمثل ضغوطا نفسية وعسكرية واعتبارية لبوتين والكرملين من خلفه في جرح عسكري بعد مصابهم المدني في سيناء.والموضوع مؤهل بجدارة لتمثيل ضغط تاريخي يخدش الأنف الروسي الذي ما برح في أنفة تجبر تاريخية أدماها الأتراك من حيث يريدون ولا يريدون، والموضوع أعمق من ما يقرؤه البعض إذ إن الناتو والذي يمثل الأتراك أحد دوله جزء من المعادلة، ولك قارئي الكريم أن تتطلع على نظرة دول الحلف من خلال ردود الفعل البريطانية وهي التي في حالة شد شبه دائم مع الروس خلال العقود الماضية حيث سيطر حادث اسقاط المقاتلة الروسية على مقالات الرأي البريطانية ونطالع في صحيفة ديلي تلغراف مقالا للكاتب كون كوغلين علق في مستهله قائلا: (الآن وقد أسقط الأتراك مقاتلة روسية فقد يعي بوتين أخيرا أنه إذا لعب بالنار فقد تحرقه)، وقال الكاتب (إن اعتقاد بوتين أن بإمكانه فعل ما يحلو له في سوريا بتجاهل متغطرس للمخاوف الإقليمية الأخرى هو ما أدى إلى كارثة أمس)، وأردف (ان سوء الفهم المتأصل من هذا النوع هو ما يجعل الحروب العالمية تنشب كما أثبتت التجارب المريرة السابقة).والموضوع كما هو جلي للأنظار المتعقلة يحظى بمباركة غربية مبطنة يمكن لها الظهور في أي وقت عند الحاجة، فالغرب كأسه قد فاض كما هو القدح التركي الذي يستهجن الاختراقات المتكررة للروس والتي تواجه باعتذارات باتت غير مجدية لدى الرئيس رجب طيب اردغان، ذي القاعدة الجماهيرية العريضة، أما بوتين ومجموعته فهم في وضع تاريخي لا يحسدون عليه بين رمضاء الإهانة ونار الخيار العسكري الذي لا تدعمه حجة بينة لتبقى روسيا في فوضى الخيارات، أما العقلاء فيهمسون لبوتين في هدوء (ألا إن يداك أوكتا وفوك نفخ)، وعلى الله قصد السبيل.