مطلق العنزي

الكائن «المصنع» من المهد إلى اللحد..!

أنظر حولك.. أو لا تنظر حولك، بعصبية، خشية أن يتلوى العنق، ويحتاج الأمر لمدلكات، أو تلمح منغصات تسبب ضيق تنفس وتلبكات في الذوق والأمعاء، وتجعل المصران «الأعور» كفيفاً ضريراً. فقط أغمض عينيك وتخيل الدم الذي يسري في الشرايين، والهواء الذي يتسلل إلى الرئتين، والضوضاء في الخارج، والطعام الذي سوف يلتهم، بالخمس أو بـ «اتيكيتات» الملاعق، وسيلج بعد قليل إلى معدة معذبة مضطهدة.ستجد أن ذلك التشكيل المتنوع من الضروريات الحياتية لا يتشكل كما خلقه الله وكما أراده، هنيئا مريئا غدقا طبقا سحا دائما، وإنما تدخلت اليد الصناعية الطولى لتعبث به وتحوله - جزاء وفاقاً - لما يعن في مخيخات المصممين والمهندسين ومنظري التجارة وبحاثة السوق.الدم الذي يسري في شرايين الناس، في الحقيقة، ليس دماً، وإنما هو خليط من كيماويات وإشعاعات، ونفايات سمية تتخلص منها الخلايا لتجعل من مجرى الدم مكباً دائماً، ولتتوزع السميات إلى كل خلية في الجسد، من الجلد إلى خلايا المخيخ ورمش العيون السود، وحليب الأمهات.بل إن الرموش، الذباحة الفتانة «خل الخدود وخل عنك الشفايف» كما يقول الشاعر، في أحيان كثيرة تصبح «مزرعة» للميكروبات والمسرطنات بسبب الكحل المغشوش بنسب عالية وخطيرة من الرصاص، وحتى الكحل اللا مغشوش، مجرد كونه عصرياً وصناعياً فهو مغشوش.الهواء الذي نتنفسه لم يتركه المهندسون نسيماً عليلاً نظيفاً يلج إلى أنوفنا بلا سوء، وإنما "كيفوه" وبردوه وإضافات أخرى، بمعنى أن الذي يسري في الرئتين ليس الهواء الرباني، وإنما هواء معدل جينياً طبقاً لإبداعات مهندسي المكيفات وأطوارهم، وما يحمل من ميكروبات وبكتيريا تعشش في تجاويف صناديق التبريد، وتتسرب إلى رئاتنا التي تتلبد بكل أنواع الملوثات من عوادم السيارات والمصانع ومخلفات الكيماويات الاسمنتية إلى دهانات الحوائط.ولم يجعلنا الله - تعالى - جسداً لا يأكل الطعام، وما كنا خالدين، لهذا الطعام الذي يتلبك في معداتنا وأمعائنا لا يشبه غداء موسى، عليه السلام، وفتاه : «فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً». أيام كان الناس يأكلون طعاماً نظيفاً شهياً، ولم يعن، آنذاك، بخلد مهندسي الزراعة أن يلوثوا - كما يفعلون اليوم - المزارع والبساتين بأسمدة تسبب طفرات جينية ومعدلات حتى تجعل المحصولات الزراعية تسر العين وتسمم البدن، ذلك أيام كان الناس يتناولون طعاما، ولا «يلتهمونه» كما يفعلون اليوم.ولهذا طعام الإنسان المعاصر، إن لم يكن قليل الفائدة، فهو مضر، إذ يتكون في الأغلب من هرمونات خطيرة وكيماويات، إضافة إلى سوء التخزين والإعداد و«ما يطلبه المستهلكون». لهذا اكتشف الأمريكيون أن «الوجبات السريعة» التي كانوا يتفاخرون بها، وقدموها فتحاً عالمياً مبيناً، إنما هي مركبات "سمية" متنوعة وجذابة. وبعض الأمريكيين ينشغلون الآن بقضايا تعويض بالمليارات ضد مطاعم الوجبات السريعة، التي تناغم الشهيات، وضيق وقت الكسالى.ولم تفسد أمراض التصنيع الجسد وحده، وإنما تمددت إلى الفكر والأذهان، لهذا يستعين كثيرون بخبراء العلاقات العامة، كي يكيفوا مظاهرهم لتكون «جماهيرية» فيما «مخابرهم» فراغ و«ربي كما خلقتني». فهذا الشهير، ليس هو، إنما ما نراه ليس إلا تشكيلاً هندسياً توجده مهارات العلاقات العامة.وعلى ذلك فإن الإنسان الآن كائن «مصنع» كلياً من المهد إلى اللحد، جسداً ومشاعر ومظهراً وسلوكاً. وتريحمل حلمه وهمومه.. وعطشه..ظمآناً.. يتطاول ومسافات السهب والتعب..يشيح عن عروض المزادات..وفتون الأضواء المهندسة..ويمم أثلة وحيدة..وغيمة تدنو..ومواعيد شموس جديدة.