د. فالح العجمي

السياسة لا تعترف بالمطلق

ربما تكون قضية اليونان مع دائنيها (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) قد حلت عند نشر هذه المقالة، لكن المغزى العميق هو في تلك الأحداث والتصريحات والاجتماعات والمناورات خلال الأشهر الماضية؛ وخاصة منذ الانتخابات الأخيرة في اليونان، وفوز تسيبراس بقوة، وهو ما يعني تفويضاً له من الشعب اليوناني بالسير في خطته الرامية إلى تقليص حدة التقشف الذي فرضه الدائنون على اليونان منذ بدء أزمته الاقتصادية الخانقة. وعملياً رضخت اليونان بعد أربعة أشهر من شد الحبال بينها وبين الدائنين جزئياً لبعض المطالب، وعلى وجه الخصوص تحقيق فائض أولي (خارج خدمة الدين العام) يصل إلى 1% في موازنة 2015م، ويصل إلى 2% في موازنة 2016م. وهذا الإجراء الاقتصادي بالإضافة إلى إجراءات تشريعية أخرى تخص رفع سن التقاعد وبعض التغييرات الضريبية، كانت ضرورية للالتقاء مع مطالب الدائنين، التي كانت أعلى سقفاً من هذه الحدود بكثير، رغم كون بعض هذه التنازلات، مما يخالف برنامج الحزب الذي حصل به على الأغلبية في الانتخابات الأخيرة. لكن السياسة لا تعترف بالمطلق، فترك بعض الهوامش للحكومات اللاحقة، التي يستطيع الشعب اليوناني اختيارها هي مما تعارفت عليه المجتمعات الديمقراطية. لكن ما يهمني في هذه المقالة ليس الخطوات التي جرى تحقيقها، أو المراحل السياسية التي وصل إليها العمل الأوروبي المشترك؛ بل بالدرجة الأولى الأجواء التي تهيمن على البيئة بكاملها، وبكل مكونات المجتمع المدني: الطبقة السياسية، والهيئات الإعلامية، والمؤسسات المدنية الفاعلية في تناغم يؤدي إلى مثل تلك النتائج. وقد جرى كل ذلك على مدى فترة الأشهر الأربعة السابقة، التي كان تداول الأزمة فيها يثير الرعب في اليونان من جهة، وفي أوروبا من جهة أخرى، وفي العالم أيضاً، لما لها من تداعيات على الاقتصاد العالمي، إن خرجت اليونان من منطقة اليورو، أو حدث أول شرخ في منظومة اقتصادية قوية. وقد كانت أولى مراحل تلك المشادة السياسية، التي اسميتها في العنوان: «لعب السياسة»، من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وفريقها السياسي البارع، ومن جهة أخرى اليكسس تسيبراس رئيس الوزراء اليوناني الفائز بانتخابات الحكومة قبل أشهر. فقد أوحى الفريق الألماني، ولهم القرار الفعلي في قضية ديون اليونان، بل وأغلب أعضاء منطقة اليورو، بأن خروج اليونان بات وشيكاً، وأن على بقية الأعضاء ألا يدفعوا زيادة على ما دفعوه من قبل من أجل أن يتكسب الساسة اليونانيون بمزيد من القروض في حصولهم على شعبية إضافية في بلدهم. وسارت على هذا الخط مؤسسات إعلامية متعددة في ألمانيا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى كفرنسا على سبيل المثال. أما في الجانب الآخر، فقد أظهر هذا السياسي اليوناني البارع مهارة في التوازن بين الشعبية التي اكتسبها في الانتخابات والرضا الأوروبي والدولي عن أدائه في الداخل، وفي المفاوضات مع الدائنين. فهو لم يفرّط في الوعود الكبرى التي أعطاها للناخبين، كما أنه لم يقطع حبال التفكير المنطقي القائم على الواقع الاقتصادي، الذي تتضح الحاجة إليه في اليونان، وفي منطقة اليورو بكاملها. لذلك كان أداؤه السياسي متميزاً بالقوة، ومستنداً على قاعدة شعبية عريضة، مما جعل الدائنين يضطرون إلى التنازل عن بعض اللاءات، التي كانوا قد أطلقوها في بداية تفاوضهم مع اليونان. وهذا في رأيي هو الفارق بين من يمارس السياسة باحتراف، ومن يظن أن وجوده وتفكيره هو السياسة بعينها، كما هي الحال في كثير من كوارث بلدان العالم الثالث. فهل يتعلمون مما يجري الآن في أوروبا بدلاً من التخبط والفوضى؟