ففي وقتنا الحالي تتعرض مجتمعاتنا إلى تيارات مختلفة من الأفكار الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، يتنوع مستواها، فتراها تعلو لتصل إلى أرقى العقول الفلسفية، وتدنو لتصل إلى بساطة الأطفال، فكيف نتعامل مع هذه الرياح التي نعتبر بعضها مفيدًا ويغيِّرنا للأفضل، وبعضها يمثل السموم التي يجب صدها والوقاية منها.
في الواقع أن هذا ليس بالحال الجديد، فقد كان هذا بالمجتمعات منذ قديم الأزل. فلكل مجتمع عادات وتقاليد تميُّزه عن غيره، وتتحول هذه العادات والتقاليد إلى أشكال يفهمها المجتمع نفسه، وقد تعرضت كل المجتمعات إلى دخول ثقافات مختلفة عنها، ولعله كان من السهل في تلك الأزمنة تميّز المختلف والجديد وترقبه، مقارنة بعصرنا عصر التكنولوجيا والسرعة الذي يتعرض فيه كل فرد إلى توجّهات وتيارات مختلفة، كيف يمكننا أن نحافظ على ثقافتنا في خضمّ هذا الحراك؟ كيف يمكننا أن نحافظ على هويتنا؟
يذكر الدكتور مشاري النعيم أنه عند دخول ثقافة أخرى مغايرة لما هو متعارف عليه في المجتمع، تقابل هذه الثقافة الغريبة بعدة احتمالات، أولها أن تهمّش وتعارض، ثانيها أن تؤخذ كما هي بدون أي تغيير، ثالثها أن يؤحذ منها ما يتناسب مع المجتمع وثقافته، وهو ما يسمى بالتثاقف أو الامتزاج الثقافي "acculturation"، وهذا ما يُسمى أيضًا المقاومة الثقافية، والتي تعني استيعاب الجديد بعد تفكيكه وتركيبه بطريقة تتناسب مع منظومة القيم في الثقافة السائدة، وهي أيضًا لا تدل على الاستجابة المطلقة للجديد الدخيل على الثقافة، وهي أيضًا الطرق التي يتبعها المجتمع لإظهار الأصالة بأشكال حديثة تتناسب مع ما تقبَّله المجتمع من الثقافة الدخيلة.
فمن الجميل أن تنفتح المجتمعات على التيارات العالمية، وتسمح بدخول النسيم المُنعش؛ ليجدد الهواء، وتغلق الأبواب والنوافذ، وتقوي الدعائم لتواجه الرياح العاتية التي تقتلع كل شيء أمامها، وتترك الساحة فارغة دون أي شيء.
سادت نظرية فورتس خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين حول الاتصال الثقافي "Cultural Contact"، وهي نظرية تقول إن الثقافات القوية تنتشر وتتمثلها (تقلدها) الثقافات الأخرى الأضعف، ولكن نظرية التثاقف "Acculturation" بمعنى التفاعل الثقافي، وترى أن أي ثقافة جديدة تنشأ عادة من تداخل عدة ثقافات، وأحيانًا يدفع الإحساس بالنقص والخوف إزاء خطر تهديد الهوية الذي يحدث في الحضارات الأضعف حافزًا للإبداع لهذا الغزو الثقافي، فتظهر مع هذا التفاعل أشكال جديدة، وهي أصالة المجتمع وقيمه التي تعكس ثقافته. فالأصالة لباس جديد يلبسه المجتمع يتغيَّر في كل عصر، ويتناسب مع إمكانياته، وما هو متوافر حينها، ويمثل تفاعله مع كل جديد. فالضعف أن تأخذ كل ما يصلك دون أن تعمل له فلترة وتنقية تأخذ منها ما يتناسب معك، وترفض ما يتعارض. فالقوة تكمن في الفلترة لا في الرفض، تكمن في الانفتاح على الآخر لا العكس.
الأصالة تعبِّر عن الجوهر لا عن المظهر الذي يتغيَّر مع الزمن.. لذلك علينا أن نفكر دائمًا في الأصالة.
Dr_Fatima_Alreda: إنستجرام