ازدواجية اللغة والكتابة أمر حتمي. لكن موضوعنا هنا ليس اللغة بل آلية نقل اللغة كتابة. موضوعنا اليوم هو الخط. هناك ثلاثة خطوط كبرى في العالم. الخط اللاتيني في غرب العالم، والخط العربي في وسطه، والخط الصيني في مشرقه. هناك مجموعات خطوط أخرى منها ما زال حيا، ومنها ما انقرض، ولكن تبقى هذه الثلاثة الخطوط المهيمنة على ما يكتبه البشر اليوم.
ومن بين كافة الخطوط قديمها وحديثها يبرز الخط العربي نسيجا وحده. فقد تضافرت مجموعة من المعطيات التاريخية لأن ترتقي الكتابة بالعربية إلى مرتبة الفن: إلى أن تصبح خطا. وقد حدث ذلك مبكرا في تاريخ العربية وارتباطها الوثيق بالإسلام. وقد تجسد ذلك حيثما كانت هناك دولة، وحيثما كانت هناك كتابة، وربما، وهذا هو الأهم، حيثما كانت هناك عمارة. وإذا كانت عمائر العالم تزدان بالمنحوتات البشرية أو بالرسومات التي تغطي مساحات شاسعة من عماراتها تلك، فإن الخط يتصدر المشهد الجمالي في العمارة الإسلامية إلى درجة احتل فيها الخط مركز الصدارة، ربما أحيانًا على حساب العمارة.
لقد اكتسب الخط في ظل الحضارة العربية الإسلامية مكانة فريدة لم يشهدها فن أي كتابة أخرى في العالم. ولعل ذلك عائد إلى سببين: الأول هو ارتباط العمارة بالإسلام وتوظيف الخط في المساجد والمدارس، وفي كل العمائر الإسلامية، لنقل رسالة الدين. السبب الآخر هو ارتباط الخط باللغة. لقد كان العرب قوم فصاحة. وكانت اللغة مجال فنهم. ولقد كان شعراؤهم فرسانهم، وكانوا فنانيهم أيضا. إن ارتباط الخط باللغة رسخ من قيمة اللغة، أيا كانت الكلمة أو العبارة التي يكتبها الخط. لقد أصبح الكتاب – أي كتاب كان - فن لغة، والقرآن الكريم هو إعجاز لغوي، والعمارة الإسلامية من هذا المنطلق تنطوي في أحشائها على جواهر من اللغة كأثمن ما تختزنه هذه العمارة. العمارة الإسلامية عمارة لغة.
ورد في لسان العرب في مادة مخخ ما يلي: " مخ كل شيء خالصه". وبهذا المعنى يصبح الخط مخ الثقافة والعمارة العربية والإسلامية، تماما كما ورد في الحديث الشريف: الدعاء مخ العبادة. وتأتي مناسبة الحديث هنا عن الخط في عام استثنائي، وفي مناسبة استثنائية. فيا له من عام ويا لها من مناسبة
......يتبع.
[email protected]