n خرجت من القرية صبيا على ظهر سيارة لوري، وقد تعفر جسمي بالتراب والغبار، أجهل مستقبلي، وكنت أعرف بأنه أفضل من مستقبل بقائي في القرية. لم يكن القرار بيدي، كان بيد والدي رحمه الله. كان صاحب القرار والمسؤول عن عائلته الصغيرة. وقد شد الرحال، قبل أن أكون، بدون دليل وإرشاد وعائل، وسند في سفرة. فأسس بمفرده الخير وعبد دروبه.
n في يوم الأربعاء 25 نوفمبر 2020 وصلت قريتي بمنطقة الباحة، قادما من الدمام على متن طائرة تختصر المسافات والزمن والجهد. سأقضي بعض أيام الشتاء في قريتي، وقد أصبحت بيوتها الحجرية أطلالا وخرابات. نصف قرن كاف لقطع العلاقات بالماضي ومعاناته. كنت أعتقد أنني رجعت وحيدا، لكن وجدت ذكرياتي ترافقني. وقفت على أطلال الماضي بمشاعر حزينة. نصف قرن.. بخمسين شتاء غابت عن شخصي. أي روح تواقة أبعدتنا؟ أي تطلعات وأدت الحنين لديار الصبا والجذور؟ أي طموح حجب شوقنا وانتزع عواطفنا تجاه قرانا التاريخية؟
n وقبل مغادرتي الدمام نظرت إلى خارطة الطقس في جوالي، لأرصد درجات حرارة منطقة الباحة، فجاء إيحاء التساؤلات لأستعرض درجات حرارة بقية مناطق المملكة في نفس اليوم والساعة. فكانت مؤشرا على مناخ وطقس وطن متعدد في المناخ والتضاريس، القامات والتاريخ، الإمكانيات والموارد. هناك من يحمل ما أحمله تجاه مناطق غادرناها ولم يعد إليها. وتساءلت بعمق إلى متى البعد عن مناطقنا الجذر. وجاء الجواب الشافي: الوطن جذر واحد، والمصير والحال واحد، والتطلعات والأخوة واحدة. نحن جيش الوطن الكبير وبأسه.
n تذكرت في رحلتي تاريخ أبي وعمي، رحمهما الله، وكل جيلهما. هاجر أبي حافي القدمين، بعيدا عن ديار الصبا والذكريات، وظل عمي في مرابعها. ماتوا بحنينهم بين ضلوعهم التي كانت تتألم. ما زلت أذكر والدي وهو على فراش المرض بمدينة الدمام، كان ينشر ذكرياته، وطقوس حياة صباه التي عاش. حرك المرض ذكرياته فكان يطوف بنا كل الأماكن التي رسمت علامات البقاء في ذاكرته.
n وعشت مع حال عمي على فراش مرضه أيضا في مدينة الدمام. عاش لأكثر من ثمانية عقود في قريته وبيته الحجري، وبعد هذا العمر هاجر في رحلة علاج. لم أكن أعرف أن هناك هجرات علاجية، كما أن هناك هجرات اقتصادية. هجرات محورها معاناة الفقر أو معاناة المرض.
n هجرتنا لم تكن عشوائية. كانت أشبه بنداء الفتوحات الإسلامية الأولى التي نشرت السلام وبشرت به في بقاع الدنيا. هجرات استوطنت خارج حدود أماكنهم. هجراتنا الحديثة كانت تلبية لنداء واجب البناء.
n في طريقي إلى منطقة الباحة كنت استحضر قمة العشرين، حيث تشكل ثلاثة أرباع إمكانيات العالم. أين كنا قبل نصف قرن وكيف أصبحنا؟ قاد بلدي القمة الأولى في التاريخ البشري التي تم عقدها عبر الفضاء وتقنياته. أصبح بلدي حفظه الله، موطن التقنيات والعقول، يدير وبكفاءة هذه التقنيات الحديثة.
n هكذا حولت قيادات بلدي الأجيال المهاجرة إلى علماء وجامعات، خبرات ومدارس، معاهد وحضارة، قادة وريادة. إنها المرجلة ورثناها لتدوم. المرجلة أيضا خلف زيارتي لقريتي التاريخية.
@DrAlghamdiMH