وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى ملمح آخر تفردت به العربية عن سائر اللغات، لقد حظيت هي وآدابها منذ وقت مبكر تحديدًا في القرن الثاني الهجري بجهود كبيرة من حيث توثيقها وتجميع نصوصها الأدبية، فتم جمع مادتها المعجمية وتدوينها، وتم تأسيس علم النحو ومدارسه المتعددة: الكوفية والبصرية والشامية والمصرية والأندلسية، وحظيت بقية علومها بالتدوين والتقعيد كالصرف والعروض، كما تمّ جمع الأدب ودواوينه الشعرية والنثرية، ثم جاء دور البلاغة بعد ذلك، فتمّ تدوين علومها والتقعيد لتلك العلوم، وهكذا اكتمل صرح البناء اللغوي العظيم، وهذا دون شك سبق وإنجاز مهيب، خصوصًا أنه جاء في عصر لم تكن وسائل البحث العلمي فيه ميسّرة، ولكن الإرادة الصلبة لدى علمائنا الأوائل الأفذاذ جعلت كل شيء ممكنًا.
منذ بدايتها واللغة العربية متشابكة الأصل والمنشأ، بل والمصير مع الدين الإسلامي إلى تلك الدرجة التي أضفى فيها الدين عليها بعضًا من قدسيته، فالعربية هي لغة القرآن ولغة علومه المتعددة، وكذلك هي اللغة المستخدمة في العبادات والطقوس الإسلامية المختلفة، من هنا هي لغة حية ثابتة القواعد والشكل وغير متغيّرة أو منقسمة على ذاتها، وذاك ملمح آخر من ملامح قوتها وأصالتها.
إنك كقارئ للعربية لن تتذوق جمالها وما يكتنفها من أبعاد تعبيرية عميقة إلا حينما تدرس طرفًا من بلاغتها، ثم تطبّق ما درست على نص قرآني أو نص شعري قديم، إنك حينئذ بصدد معرفة حقيقة لها وما تعنيه، من هنا تظهر لنا الأهمية التكوينية والتاريخية والدينية للغة العربية، أهمية تقودنا للتمسّك بها أكثر وتطويرها لتتلاقى وتتناسب مع التقدم العلمي وتحتويه، كي تحيا ونحيا بها إلى الأبد. إن لكل أمة خصوصيتها وثقافتها، واللغة أهم ما يعبّر عن الخصوصية والثقافة، وحين نتخلى عن لغتنا وننفر منها ونزدريها فقد تخلينا عن هويتنا وأصلنا، إن الاختراق الثقافي لمجتمعاتنا من قبل الإنجليزية واللغات الأخرى هو أمر حادث ولا يجب نكرانه، بل يجب مواجهته بالشكل المناسب، الشكل الذي يجعلنا نحافظ على خصوصيتنا ونفخر بها وفي نفس الوقت لا نتخلف عن ركب التقدم والعلوم.