هذا الرجل الذي أحدثكم عنه مشى على قدميه أكثر من أربعة أشهر من أجل هدف واضح، (والله يعلم ماذا صادف في الطريق من وحشة ووحوش وقطاع طرق) وحين وصل إلى بغداد تفاجأ بأن ذلك العالم (بروفسيور عصره في علم الحديث بلغة الأكاديميين) محبوس بإقامة جبرية في بيته وممنوع من قبل الخليفة أن يكون له مجلس علم أو محاضرات أو ندوات.
في هذا الموقف المؤسف ماذا ستكون ردة فعلنا لو كنا نحن ذلك الرجل الذي قطع كل تلك المسافة مشيا على الأقدام؟، هل سنقول: «حظي ردي»؟! أو ترديد مثل: «وين ماطقها عوجا»، أو كل ناس حظهم أحسن مني، وغيرها من شلال الكلمات التي نظل في الغالب نرددها على أنفسنا سرا وجهارا حتى للأسف يصدقها عقلنا الباطن ونقتنع بها. تلك التساؤلات والأفكار ستراودنا وقد نحزن ونتعب ونتضايق لأننا بشر، ولكن الذي يتعدى تلك المرحلة هو الناجح، بل هو السعيد فعلا لأنه من الغد سيبدأ بالبحث عن الحلول والبدائل، وهو موقن بقوله سبحانه وتعالى: «فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا». هذا الرجل الذي كان يبحث عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، ذهب إليه وأصر أن يقابله ويتعلم منه في بيته بحيلة في قصة طويلة ومشهورة، فانقلبت المحنة إلى منحة رائعة، وبقي لنا منها دروس نتعلمها عبر الأجيال.
ذلك الرجل هو العالم بقي بن مخلد القرطبي الذي أصبح من العلماء ذوي المكانة الرفيعة في عصر الأمير محمد بن عبدالرحمن الأموي بعد عودته من رحلته الشاقة والطويلة. وكان له الفضل في نقل علم الحديث إلى الأندلس، ليسطر لنا حقيقة أن الجهد والبذل يؤتي ثماره ولو بعد حين. وصدق أبو الطيب المتنبي حين قال: لولا المشقة ساد الناس كلهم.