وعن السؤال الأول الذي يتناول الدور التاريخي الذي لعبته «الأربطة» في حياة بلدة «هجر»؟ يجوز لي القول ــ من منظار تجريدي بحت ــ إن هذا الدور قد انحصر في أمرين هامين: «الأمر الأول»: هو أن هذه «الأربطة» كانت بمثابة «قلاع» حصينة حاملة لواء الدفاع عن المعتقد الديني المتمحور حول «العقيدة السلفية» وأصولها كما كانت معروفة لدى مذاهب أهل السنة منذ قرون. وهذا الأمر صحيح حتى بالنسبة «للأربطة» المحافظة على «العقيدة الشيعية» وأصولها الأثنا عشرية الجعفرية كذلك. أمَّا «الأمر الثاني»: فهو أن هذه «الأربطة» قد كانت أشبه ما تكون «بمنازل أو بيوت» متواضعة ذات سقف واحد أو أكثر بها نزلاء من بلدة «هجر»، وكذا نزلاء وافدون عليها من بلدان مجاورة للسكن بغية تحقيق أهداف من أهمها تلقي العلم الديني بها، ومن ثم الحصول على «إجازات علمية» ليكونُوا «وُعَاظًا» أو «أئمة» مساجد أو أئمة «فتوى»، أو «قضاة» ببلدانهم، ناهيك عن أن البعض من الوافدين بعد تلقيهم العلم في«هجر» كانوا يتوجهون لمكة المكرمة إمَّا لِأداء فريضة الحج أو العمرة أو لِلبقاء بها للتزود بالعلم الديني. وأهم كتاب رَصَدَ لذلك الأثر التاريخي لدور «الأربطة» في ظل بيئة مفرغة من كل توجه معرفي ديني أو غيره، (رغم أن الأغلبية الساحقة من سكانها مسلمة ديانةً إلا ما ندر، ولكنها كانت في حاجة ماسة إلى من يبصرها في شؤون معتقدها الديني الإسلامي) هو كتاب بشار بن يوسف الحادي المسمى
«علماء وأدباء البحرين في القرن الرابع عشر الهجري»، ط/1، 1426هـ الموافق 2005م، وهذا الكتاب عبارة عن سجل تاريخي وَثَّقَ أحوال بلدتي، بلدة «هجر» التي ظلَّت في ظلامة من الجهالة والأمية. لقد دلَّل «الحادي» في كتابه على أن الأغلبية من «علماء البحرين» قد دَرَسُوا في أربطة «هجر» وأهمها «رباط آل أبوبكر»، أو على الأقل مَرُّوا على «الرباط» وهم في طريقهم للحج، أو للاتصال بعلماء المدينتين المقدستين: «مكة المكرمة» و«طيبة الطيبة». فعلى سبيل المثال ذكر الحادي نبذة عن الشيخ عبداللطيف بن محمود آل محمود الشافعي المذهب، والذي تولَّى القضاء في «البحرين» قائلاً: إن الشيخ «عبداللطيف» قد وُلد بقرية «قلالي» من قرى البحرين، وأخذ العلم على يد والده، ثم رحل إلى «الأحساء» فأخذ عن عالمها الشهير الشيخ «أبوبكر بن عبدالله الملا»، وكان بينهما مراسلات، ومن ثم شَدَّ رحاله إلى «مكة المكرمة» فأخذ من علمائها، ومن ثم رحل إلى «المدينة المنورة» فَدَرَسَ على يَدَي العالم الشيخ «عباس بن محمد أمين» الذي أجازه، كما أخذ إجازة من العلامة المحدث الشيخ «محمد علي بن ظاهر الْوِتْرِي». بعدها عاد الشيخ «عبداللطيف» إلى «البحرين» فَعُيِّنَ في سلك القضاء في عام 1345هـ فباشره بكل عفة، وعناية، كما تولى عقود النكاح فكان «مأذونًا» شرعيًا. وتناول «الحادي»، على سبيل المثال كذلك، سيرة الشيخ «سلطان بن علي آل جودر» المالكي المذهب، والمولود في مدينة «المحرق» بمحمية البحرين، من أنه ينحدر من أسرة فيها عدد من الدعاة، وقد حفظ القرآن الكريم، وتعلَّم شيئًا من العربية، ومن ثم شدَّ رحاله إلى بلدة «هجر» ليأخذ من عالمها الشيخ «عبدالله بن أبوبكر الملا» وغيره من المشايخ في ذلك الوقت، فدرس علم الفقه والفرائض والحساب واللغة العربية وآدابها وغير ذلك. ومن ثم عاد إلى «البحرين» ليبدأ في الإفادة والنفع للخاص والعام وذلك حوالي سنة 1309هـ فيقوم حاكم البحرين الشيخ «عيسى بن علي آل خليفة» فيوليه إمامة مسجد «عبدالله الجامع» لما وجد فيه من الصلاح والخلق والدين بعد وفاة الشيخ «عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ مبارك» الأحسائي سنة 1310هـ. كما ذَكَرَ «الحادي» نبذة عن سيرة الشيخ «عبدالله بن محمد الكوهجي الشافعي النقشبندي الفارسي البحريني». وُلِدَ هذا الشيخ ببلدة «نجوة» من بلاد فارس، وبعد أن كَبُرَ رَحَلَ إلى «كوهج» بلد العلم والعلماء في «فارس» في ذلك الوقت فَأَخَذَ العلم عند «سلطان العلماء» الشيخ «عبدالرحمن بن يوسف»، ثم رحل إلى «البحرين»، واستقر بها فترة، ومن ثم رحل إلى «بلدة هجر» عاصمة العلوم في ذلك الوقت، واستفاد من جماعة من شيوخها منهم: الشيخ «محمد بن حسين آل عرفج» الأحسائي الشافعي، والشيخ «أبوبكر بن عبدالله الملا»، كما رحل إلى «مكة المكرمة»، ودرس في «المدرسة الصولتية»، وفي الحرم المكي على يد المشايخ الكبار بها منهم: «عباس بن عبدالعزيز» المالكي المكِّي ونجله، والشيخ «حسن بن محمد مشاط». وبعد عودته «للبحرين» تَصَدَّرَ للإفادة والنفع، وفتح مجلسًا للذكر، وبدأ بالإمامة والخطابة في مسجده، وتدريس الطلبة، وكان القضاة يرجعون إليه في المعضلات لحلها. وللشيخ «الكوهجي» مراسلات مع الشيخ «محمد بن أبوبكر». ومن بين هذه الرسائل رسالة ذات أهمية قصوى، رغم ركاكة أسلوبها، وما اشتملت عليه من أغلاط نحوية وإملائية، ألقى «الكوهجي» فيها الضوء، في شفافية تامة، على أحوال «رباط آل أبوبكر» في بلدة «هجر»، ناهيك عمَّا تضمنتْه الرسالة من معلومات تتعلق بالصراع بين المحافظين على المعتقد الديني السلفي بالبلدة وعلى تقاليدها وعلى ما كان يناقضها في بلدة «فارس» من توجهات منافية للتوجهات الدينية والأخلاقية، وهي توجهات كان الغرض منها تقليد الغرب في أنماط معيشته من الناحية الاجتماعية، وللتخلص من هذه الآفات منح «الكوهجي» تفويضًا مهما للشيخ «محمد» فيما يتعلق «بابنِ أخيه» الطالب «يوسف بن أحمد» الذي سيلتحق «بالرباط»، ويقيم فيه. ومن محتويات التفويض أن «الكوهجي» طَلَبَ من الشيخ «محمد» أن يجعل هذا الطالب منتظمًا مع تلاميذ «الرباط»، مع الإذن له في تأديبه، وضربه، ومنعه من الخروج إلى السوق، أو إلى أي مكان آخر، ومن مصاحبة غير الجنس أي ألا يختلط بالإناث، وُمُؤملاً من الله سبحانه وتعالى أن يسمع الطالب «يوسف» قول الشيخ «محمد»، ولا يخالف أمره.
وبالنظر لأهمية هذه الرسالة من عدة نواح منها: أنها تُلقي الضوء على أرض الواقع فيما يخص «الأحوال الثقافية» فيما بين بلدة «هجر» وما جاورها من بلدان، وهنا بالذات بلاد «فارس»؛ ومنها أن الرسالة تضمنت معلومات عن الأحوال الاجتماعية العامة في «بلاد فارس»، وكذا عن العلاقة بين الرعاة على «رباط الملا» ومسلك نزلائه، ناهيك عن أن الرسالة تُعتبر من الرسائل النادرة التي تُوَثِّقُ فترة «الحراك الثقافي» الذي يَعْنيني في هذه الذكريات عن بلدة «هجر» وإن كانت بمناسبة حياة طالب مُوفَد إلى «رباط آل أبوبكر» لِتلقِّي العلم الديني فيه. لذا أرى نقل نص هذه الرسالة أدناه بكاملها، مُجزِّئا محتوياتها فقرة.. فقرة.. لأن كل فقرة ذات أهمية، ولأنها بمثابة شهادة عن واقع ثقافة الزمان وقت تحريرها. بدأت الرسالة بتحية المشرف على الرباط بالعبارات التالية: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى حضرة الأجل الأفخم، العالم الفاضل، والمرشد الكامل، سيدي الشيخ محمد بن سيدي الشيخ أبوبكر حفظهما الله تعالى، ومتَّعنا الله بطول حياتهما آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». أمَّـا الموجب للرسالة وعنونها «الكوهجي» بالكتاب فكان كما يلي: «أما بعد: فالموجب للكتاب هو إبلاغكم جزيل السلام، والسؤال عن صحة حالكم، واعتدال أوقاتكم، لا زلتم في أتم الصحة والعافية، ومُتكئِين على بساط المعزة والفرح، مُوفقين لإعلاء كلمة الدين، ومُرشدين لأبناء المسلمين، كَثَّرَ الله في الإسلام أمثالكم، ونفعنا من بركاتكم، وإن تفضلتم بالسؤال عن حال محبكم القديم، فهو من فضل الله ومن بركة دعائكم بخير وعافية، لا أسأل إلاَّ عن أحوال سلامتكم، وقد وصلنا البحرين في 12 ربيع الثاني بكمال الصحة والسرور، ولا رأينا ولله الحمد مكروهًا، ونزلت في (الحد) في بيت الشيخ عبداللطيف بن محمود. والشيخ عبدالله الكوهجي نزل في المنامة عند الحاج محمد طيب، ومدة من الزمن كنتُ أتعالج عند الدكتور من الحرارة التي كانت في أطرافي، والآن الحمد لله في رجاء الصحة»؛
أما أحوال بلدة «فارس» وأخبارها فهي أخبارٌ غير سارة، ولا يستطيع العودةَ إليها حيث قال عنها في كتابه: «أخبار طرف فارس شَدَّدُوا على الناس كثيرًا من لبس البرنيطة، وكشف الحجاب عن النساء، وحلق اللحى، نسأل الله أن يرفع هذه البلية عن المسلمين. والحقير إلى الآن متحير في أمره، ولا أستطيع الذهاب إلى فارس والحالة هذه، أرجوكم ألا تنسوني من صالح دعائكم»؛
ومن ثم تحدث عن كتاب (شرح خمسين حديثا) لابن رجب الذي كان يرغب الشيخ «محمد أبوبكر الملا» في اقتنائه فَذَكَرَ في كتابه عن أمر هام في وقته ليس هو في استطاعته تنفيذه وهو أن أهل زمانه ما يصدِّقون قول طلبة العلم، أي لا يستمعون لإرشاداتهم وتوجيهاتهم. قال الكوهجي ما نصه: «ومن طرف كتاب (شرح خمسين حديثا) لابن رجب الشيخ عبدالله الكوهجي كَلَمَ الحاج «محمد طيب» مرَّتين ووعَده بأن يشتريه حسب بُغيتكم، ولكن إلى الآن ما تبين شيء، ولكن الأولى أن تكتبوا أنتم للحاج «محمد طيب»، وتبينوا الحال لأن أهل هذا الزمان ما يصدقون قول طلبة العلم، والكتاب المذكور عند السيد عبدالله، وإلى الآن ما استلمت منه، وعدده ثلاث نسخة لا زيادة.
ومن ثم أفاد الكوهجي عن بُغْيَتِهِ في كتابه المرسل للشيخ «محمد أبوبكر» وهو إِرْسَالُ «ابن أخيه» للرباط ليكون تحت رعايته التامة فَذَكَرَ في الكتاب: «وبعد أرسلنا الولد يوسف بن أحمد ولد أخي المرحوم إليكم، وقصده الإقامة عندكم لطلب العلم، أرجوكم أن تقبلوه، وتنظموه في سلك تلاميذكم، أرجو الله أن يستقيم، ويواظب على الدروس حسب أمركم، ومأذون لكم في تأديبه وضربه ومنعه من الخروج إلى السوق، أو إلى أي مكان آخر، ومن مصاحبة غير الجنس، وإن شاء الله يسمع قولكم ولا يخالف أمركم، أرجوكم أن تأمروه على مواظبة الجماعة، والمداومة على الرواتب، وأن تكلفوه على حفظ المتون مثل: (الزبد) لابن رسلان في الفقه، والتعارف في النحو، والأمثلة في الصرف، وإن رأيتم فيه الاستطاعة ألزمُوه على حفظ القرآن، لأن الظاهر من أحواله عنده قوة الحافظة، وإن شاء الله من بركتكم يتعلم، ويواظب على الدروس»، وختم كتابه بقوله: «وهذا ما لزم، والباري يحفظكم. وبالفضل بلغوا سلامي حضرة الوالد، والأخ أحمد، والأخ الشيخ عبدالرحمن، والأولاد، والشيخ أحمد بن الشيخ عبداللطيف، والشيخ عبدالله الخطيب وجميع المشائخ. ومن لدينا الشيخ عبدالله الكوهجي، والشيخ محمد بن عبدالعزيز، والشيخ عبدالطيف بن محمود وولده الشيخ محمد يسلمون عليك. محبكم: عبدالله بن محمد بن أحمد ملك كجوئي».