واكتشفت في البيت أني أرى الشفاه تتحرك وبالكاد أسمع صوتا، وهنا بدأت أمطرهم بقذائف متتالية من الأسئلة حتى أني شعرت أني أثقل عليهم..
هنا تأكدت مرتاعًا أن جزءًا كبيرًا من قدراتي السمعية قد اختفت.
وكنت قد أصابتني نوبة برد مع التهاب بالصدر صاحبها قلة السمع، فألغيت كل ارتباطاتي، وكان أسبوعا مليئا بالارتباطات المهمة، بعضها كمتحدث أو مشارك، فقد كان، بتصوري، محرجا لي أن أصرخ على الناس أو أطلب منهم أن يصرخوا علي، فلزمتُ بيتي وطبقت ما وصف به المعرّي نفسه بأنه رهين المحبسين. إلا أن طبيبي الدكتور مساعد الزهراني، المختص في الأذن والأنف والحنجرة، طمأنني بأن حالتي نوع من الوهن المؤقت في القنوات السمعية الداخلية من فعل تلك الاضطرابات الرئوية.
وإني الآن ألوم نفسي لوما شديدا لما اتصل بي رئيس جمعية الصم، عن طريق مترجم فاضل، لتحديد موعد للقاء بهم في جمعية الصم، وتعثر علي أن أجد وقتا قريبا للزيارة، وأود الآن أن أطير اليهم بصاروخ.. فهذا هو الوقت الأنسب، خصوصا وأن هذا يتيح لي الخروج من محبسي الذي فرضته على نفسي، لأكون مشاركا لهم واقعيا وحسيا ووجدانيا في مسألة الصمم.
على أني أختلف عمن بهم صمم، فشبه الصمم هذا المؤقت الذي أصبت به أعاقني، بينما هم لم يعقهم الصمم اللازم الكامل، بل جعلوا ذلك منصة لهم للتعويض والتفوق والنجاح.
تعلمت من حالتي بقلة السمع أن الأصوات أحيانا تلوث صفاء الفكر، وعرفت لماذا خرجت العبقرية من بيتهوفن ومن أديسون ومن مصطفى صادق الرافعي وذلك لأن بهم صمم، أو سمع ثقيل أقرب للصمم.
إن الهدوء المحيط يجعلك تغوص بداخلك فتكون أنت العالم، وتسوح في محيط خلقك الإعجازي في عقلك وقلبك وفي جوهر وجودك، وتختلي بنفسك عن العالم فتعرف قيمة هذه النفس وجوهرها.. فلا تسلمها لأحد ليقودها أو يعبث بها.
لماذا يسعى الناس من القدم للانقطاع للتنسك والتأمل لتلمّس الحكمة في الابتعاد عن أماكن بعيدة عن الناس وضجيجهم؟ ذلك ليتسنى لهم عبر انقطاعهم وتأملاتهم استلام وميض الإلهام الذي سيحملهم رسالةً لهم وللعالم.
تعلمت، بالدرس الواقع، أن لا نقمة على الأرض.. بل هي ظروف إما أن نقبلها حبسًا ونقمة، أو نغتنمها فرصةً.. انعتاقًا وهمّة.
[email protected]