لا يكاد يمر يوم دون أن يحمل معه واتس آب مقطعاً صغيراً أو إشارة أو حتى لمحة تطير بنا الذاكرة إلى زمن الطيبين لنرى وفي ثوان معدودة كل ما يمت لذلك الزمن الجميل من ثياب وحلويات وشوارع وأزقة وبيوت من طين ومشروبات وعصائر (كعصير قها مثلاً), والآيس كريم الذي لم يكن يعدو عن شراب ملون محلى بالسكر صب في بلاستيك صغير جعل له ثقب صغير في طرفه.
وزمن الطيبين هو ذاك العمر الذي عاشه آباؤنا والبعض منا عاش أواخره عندما كنا صغاراً نركض أحياناً في شوارع الحي (حفاة بلا أحذية) وبعدها نفاجأ بكف ساخن من الوالد –يحفظه الله- لأننا خالفناه أوامره!!
ذهب زمن الطيبين وبقيت أحلى ذكرياته في خواطرنا تدغدغ مشاعرنا, تضحكنا حيناً وتعصر قلوبنا حيناً آخر.
إنهم يريدون روح الماضي ممزوجاً مع آليات وتقنيات تطور الحاضرهناك مرجيحة تتدلى من أعلى الشجرة كنا نتناوب عليها وشجرة السدرة والعصا التي نضرب بها أغصانها ليسقط (الكنار: النبق), وشجرة اللوز بالقرب منها تزدان بثمرتها الحمراء.
ترى لماذا كل هذا الحنين الشديد لذاك الزمن مع كل ما فيه من فقر وشح في الإمكانيات؟!!
هل هو حب صادق من الأعماق لبيت الطين ولشجرة التين ولسيارة (الفليت) التي كنا نركض خلفها نشم عطراً ساماً ونحن نضحك.
الزقاق الضيق (الداعوس) كان لنا بمثابة ملعب الكرة الكبير يلعب فيه عيال الحي سوياً دون خوف أو رقيب؟.
لماذا كل هذا الحنين لذاك الزمان الذي مضي ولن يعود؟.
لا أتصور أبداً أن من يعشق ذاك الزمن يريد العودة لبيوت الطين فيستغنى عن الفيلا الفخمة ذات العوازل الإسمنتية, وعن التكييف المركزي والسيارة الفارهة ويستغنى عن تناول طعامه على مائدة بلغ طولها نفس طول غرفة الطعام الكبيرة بمقاعدها الوثيرة, ولن يستغنى عن المطابخ الثلاثة في منزله: (التحضيري, الأساسي, الخارجي)!! ولا يمكنه أن يستغني عن أجهزة التقنيات الحديثة.
ليلة واحدة فقط توقف فيها (النت) فضج العالم بأسره!!
لماذا كل هذه التنهيدات عندما يذكر هذا الزمن؟ ويأتي الجواب ليكشف لنا عن حقيقة اختفت وراء هذا الحب الرومانسي للطيبين.
الكل لا يريد العودة للعيش في بيوت الطين, ولن يسبح في بركة إسمنتية في مزرعة نخيل الطيبين, ولن يستبدل المكيف البارد بمروحة سعف النخيل مهما كانت زخرفتها جميلة أنيقة.
الناس بحق يريدون العودة إلى روح تلك الحياة البسيطة البعيدة عن التكلف والحياة المادية التي ضيقت عليهم الخناق فجعلتهم لا يفكرون إلا بلغة الأرقام الحسابات, إنهم بحق يريدون صبغة تلك البيوت المشرعة أبوابها والمفتوحة على مصراعيها من بعد شروق الشمس حتى بعد صلاة العشاء, وكأن المنازل تقول لروادها: (حياكم الله, ادخلوها بسلام آمنين, لا تطرقوا جرساً, فالبيت بيتكم…).
إنهم يريدون بساطة الضيافة (قهوة مع تمر أو رطب) ولا بأس بصحن فيه أعداد فردية من التفاح والبرتقال والموز, وإذا زاد الخير (علبة أناناس تفتح للضيف العزيز) وهذا من الكرم المعهود.
إنهم يريدون حميمية زيارة الضيف المفاجئة دون أن يسمعوا (كلمونا قبل ما تجون)!!.
إنهم يريدون رؤية وجوه أهل الحي الحقيقيين بعيداً عن وجوه الغرباء الذين ضجت بهم بيوتنا (من خدم وسائقين) فاطلعوا على حياتنا وأسرارنا وعلى عورات أطفالنا!!.
إنهم يريدون التلفزيون الواحد ليس (لرقمه الواحد) ولكن يشدهم الحنين إلى اللمة العائلية حول مسلسل الساعة السابعة مساءً, هذه اللمة التي افتقدتها معظم العائلات مع أبنائهم, إنهم يريدون وجود الأب بينهم وفي حياتهم بسطوته وشموخه..
إنهم يريدون (نوم الأسطح) لأنهم كانوا يرون القمر والنجوم مباشرة ويتكلمون معها بهمس دافئ يعبرون فيها عن خلجات نفوسهم البريئة.
إنهم يريدون أن يخلطوا الساحل والصحراء والبادية بالأبراج الشاهقة (عين في الجنة وعين في النار).
إنهم يريدون التخفف من غزو التواصل الاجتماعي الألكتروني الذي بات يطاردهم طوال اليوم.
إنهم يشتاقون لرمضان زمان ولبرنامج «على مائدة الإفطار» الذي يطل عليهم الشيخ/ علي الطنطاوي -يرحمه الله- بحكاياته المسلية ووقفاته العفوية عندما كان ينسى آخر ما قاله!!
ولكل هؤلاء أقول:
من أراد لزمن الطيبين أن يعود فليصرخ بعلو صوته (ارجع يازمان) عندها فقط سيأتيه الرد عبر الأثير وسيسمع صدى صوته وقد عاد له بخفي حنين!!!
فالحمد لله على كل حال.
خاتمة:
ويبقى مسلسل (درب الزلق) الزاوية الجميلة التي نذهب إليها كلما اشتد الحنين لزمن الطيبين!!!
تحياتي..