هذه البدائل قد دفعها إلينا النظام الاقتصادي الجديد الذي ينادي بالحرية، فشاهدنا في سوقنا المحدود انتشار القنوات الخاصة، التي تمكننا لنشاهد ما نريد وكيفما نريد، وقت ما نريد. وهذا هو الدافع من الاقتصاد الحر الذي يؤسس لمفاهيم التنافسية والانتشار بعد التحول للملكية الخاصة والقطاع الخاص «الخصخصة» والتكسب فيما يراه مربح، دون قيد أو رقابة.
وبعد الدخول في خصخصة الكثير من الجهات والخدمات، فقد أضعنا منها ما اسميها بـ»السلطة الأبوية» التي كانت تمارسها الدولة بطريقة أكثر احترافية، وكمثال ونموذج أعود إلى قطاع التلفزيون، فنحن نفتقد للكثير من المسؤوليات التي كانت تقدم لنا بالمجان في القطاع، ومن خلال مؤهلين وخبراء يختارون المواد الإعلامية ويشرفون عليها وعلى محتواها وأهدافها ولغتها وإنتاجها، واختيار الوقت المناسب، ومراقبتها واستخدام مقص الرقيب في التدقيق والتمحيص فيها بما يناسب البيئة والمجتمع والتربية. اليوم بتنا بلا رقيب بعد نيلنا الحرية المقدمة لنا على طبق من ذهب، فصار المنتج المقدم يخضع فقط لاشتراط السوق وقوانين البيع والشراء، لذا، جعلتنا هذه الحرية «المدفوعة» في عزلة كبيرة وتحت تأثير الكم الهائل من القنوات، وبالتالي صار الأمر أشبه بالفوضى بعد أن ضاعت «السلطة الأبوية»، فكل فرد في العائلة لديه كامل الحرية لأن يعزل نفسه بمشاهدة ما يحب دون رقابة ولا إشراف مؤهلين، لذا، فقدنا المركزية والسلطة.
ولنقيس هذا النموذج على باقي الجهات والخدمات التي تمت خصخصتها، إن مقياس أي سلعة هو المفاضلة التجارية المربحة، لن يكون هناك غير مبدأ واحد يقاس بها وهو الربح والنجاح أي مبدأ الميكافلية «الغاية تبرر الوسيلة» هو الأساسي ليحول الخدمات إلى سوق بيع وشراء، بلا مبادئ أو أهداف وطنية، كتلك التي تشرف عليها الدولة لتعزز المواطنة والانتماء.
في الحقيقة هذا ما فكرت فيه وأنا أقرأ مقال روشير أغاروال بمجلة التمويل والتنمية التابعة لصندوق النقد الدولي «ما هو النمو الاحتوائي» وهو يتحدث عن المجتمع الرأسمالي الذي سبقنا اقتصاده الحر بمئات السنين إلى تفعيل الكثير من القوانين التي تصب في مصلحة الملكية الخاصة. حيث يقول في مقاله «توجد تفسيرات مختلفة للحرية..
ولكن حتى المدافعون عن الحرية المشهورون، كجون لوك إلى آدم سميث وجون ستيوارت ميل، أدركوا ضرورة التدخل الحكومي إلى حد ما، وتقودنا وجهات نظرهم المختلفة إلى قلب الحوار المتعلق بمعنى أن يكون المجتمع حرا ومتساويا، فتخيل أنك تقود عملية تصميم مجتمع ما، كيف ستحقق التوازن بين هذه المبادئ؟ فكل اختيار على مستوى السياسات ينطوي على مفاضلة».
وفي شرحه عن مصطلح «النمو الاحتوائي» يقول إنه يجسد مبدأ إمكانية التعايش بين خلق الثروة، والحرية الاقتصادية، وتكافؤ الفرص، ويعزز فكرة أن المجتمع يمكن أن يكون حرا ومتساويا وأن يسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق النمو الاقتصادي والرفاه على المدى الطويل، وسيعتمد دور الحكومة في تحقيق هذا التوازن على القيم الفردية، والثقة في الجهات الفاعلة السياسية، والحقائق المحلية.
حتى الاقتصاد الحر اليوم يبحث عن دور رئيسي «للسلطة الأبوية» التي فقدها بمصطلحات وقوانين يبتكرها.
@hana_maki00