عندما تتقاعد ستستمع كثيرا إلى كلمة (وش عندك.. متقاعد وفاضي!) خصوصا حين تعتذر عن عزيمة (دعوة غداء أو عشاء) أو لقاء أو مهمة أو عرض وظيفي مؤقت أو دائم أو غيرها من العروض والفرص التي تقتضيها الحياة الاجتماعية أو بحكم العلاقات العامة العريضة التي تكونت خلال الفترة الوظيفية والمهنية.
وفي واقع الأمر أنه ليس كل (متقاعد فاضي) بل العديد منهم له مهام وأعمال وجدول مختلف عما يعتقده الكثير من الناس الذين تعودوا على روتين الحياة الوظيفي المتكرر. وابتداءً وحتى تتضح الصورة، فليس المقصد التقليل من شأن الوظيفة، فكل ميسر لما خلق له، ولكن المقصد هو الرد وتوضيح الفكرة المتكررة والنمطية عن أن (المتقاعد فاضي).
إن الحقيقة الغائبة عن الكثير أن الحياة يوجد بها العديد من المسئوليات التي قد تكون شخصية أو مهنية أو أسرية أو اجتماعية، والتزامات أخرى متنوعة سوف تأخذ حيزا واسعا من الأوقات غير الوظيفة. هذه الأمور الأخرى هي أيضا عمل، ولكن ليس اسمها (وظيفة) فالعبرة ليست في اللفظ، ولكن في الإنتاج والمحصلة، أي أن المهم هو الغاية وليست الوسيلة.
وعلاوة على ما سبق، فليس مطلوبا من المتقاعد أن يذيع جدوله اليومي على شكل نشرة أخبار للقاصي والداني، ولا أن يبرر حياته للآخرين، ولكن البعض يكون دفعه الفضول وحب الاستطلاع! مع أن القاعدة العامة تقول: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). ولكن المشكلة تكمن في أننا تعودنا في هذا الزمن بسبب يوميات التصوير، والمحادثات المباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي (التي صارت تبحث عن تفاصيل التفاصيل!) أنه لابد أن أخبر الجميع بنوع القهوة التي أشربها كل صباح! مع شرح مفصل ومصور فربما تصبح (ترند) في ذلك اليوم! فهل عرفتم الآن من هو الفاضي حقا؟!
ولعلي أضيف وأبين أن الخصوصية شيء رائع، ولها طعم مميز، وهي أفضل بمراحل من مذاق الشهرة المنمق، فالمهم فعلا أنك تقضي حياتك بالنفع الخاص والمتعدي معا، ولا يهم بعد ذلك إذا كان الطرف الآخر (المتابع) يعلم أو لا. ويُنقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه قال: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبدًا، فأوجر عليه ولا يحمدوني. واليوم صارت الدنيا تمشي بالمعكوس! فهناك من يتصدق بيمينه ويصور بشماله! وهناك أيضا من يتباهى على هذه الوسائل أنه علم المتابعين كلمة أو جملة!
وعودا على ما بدأنا، فبعد التقاعد هناك جوانب ونوافذ أخرى في الحياة سوف تظهر لنا لم نُعرها اهتمامنا من قبل، والسبب وراء ذلك أن تركيزنا كان منصبا على جانب دون الآخر. فمنها على سبيل المثال لا الحصر الأسرة والأبناء، ومنها أن حياتنا الشخصية والروحانية قد فقدت شيئا من بريقها، فربما حان الوقت للالتفات إليها. بالإضافة، فإن العزلة المنتظمة للمتقاعد عن ضجيج الحياة لها أثر بالغ في الراحة والتأمل. وما أعطي إنسان شيئا أفضل بعد الإيمان مثل الراحة والسكينة.
وتجدر الإشارة إلى أن قواعد اللعبة بعد التقاعد تكون قد تغيرت، والأولويات تبدلت، والاهتمامات تنوعت، والقدرات الجسدية والذهنية كذلك تكون قد اختلفت. ومع ذلك، فحسن التخطيط لهذه المرحلة مبكرا له ثمرات عدة، منها الاستقرار المادي، والعمل التطوعي، والعطاء المعرفي (الخبرة)، والاستجمام لفترات أطول، والتعلم والاستكشاف، والاهتمام أكثر بالصحة الجسدية والذهنية، والقائمة تطول في هذا الشأن.
وخلاصة القول، فإن (الفاضي) هو الذي تقاعد عن الحياة لا عن الوظيفة والعمل!
@abdullaghannam