الكثير منا يقع في هذا الخطأ (ولا أستثني نفسي)، ألا وهو الحكم على الأقوال وبعض الأفعال في التعامل بشكل متعسف أو سيئ؟ وقد نجهر بها أو قد نكتمها بيننا وبين أنفسنا! فكم مرة رأينا شخصًا يقوم بعمل خير أو إحسان أو تطوع، فقلنا: ربما رياء، وليقال إنه من أهل الخير أو أن مقصده شيء من الدنيا، مثل: منصب أو شهرة وسمعة أو غيرها من الأسباب المادية الظاهرة.
وقد نرى شخصًا يتحدث في مجلس فنقول: ليقال عنه إنه ذو علم و(فاهم)! ولعلنا نرى إنسانًا يحمل كتابًا في مكان عام فنقول: ليقال إنه مثقف، بل أبعد من ذلك، فقد نرى شخصًا يصلّي بهدوء ورويَّة فنشك في ذلك، ونقول: يدّعي الخشوع! وغيرها من الأمثلة العديدة والمتنوعة والتي نعلمها عن أنفسنا.
والعنوان لهذا المقال يوضح ما ذكرته آنفًا، وهو مقتبس من الحادثة الشهيرة في السيرة النبوية الشريفة. ودعوني أنقل لكم نصَّها لتعيشوا مع الأجواء حقًّا وتستشعروا الموقف. فعن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنهما- قَالَ: «بعثَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فَلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: يَا أُسامةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ». وفي روايةٍ: «فَقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَومَئذٍ».
وبيت القصيد من هذه الحادثة والقصة المؤلمة على قلب أسامة بن زيد -رضي الله عنه- الذي كان من المقربين إلى الرسول «عليه الصلاة والسلام»، حيث كان يسمى (الحب ابن الحب)؛ لأن النبي «عليه الصلاة والسلام» كان يحب أباه زيد بن حارثة، ويحب أسامة (الابن)، ومع ذلك أنكر عليه الرسول «عليه الصلاة والسلام» وبشدة، وكررها عليه، كأنها رسالة لنا جميعًا وللأجيال القادمة ألا نحكم على قلوب الناس وما يخفون، ولنا منهم الظاهر، وأما البواطن فعلمها عند علام الغيوب «سبحانه وتعالى».
وجاء أيضًا حديث نبوي آخر يؤكد على نفس الإطار العام لهذه المسألة: «رَأَى عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقالَ له: أَسَرَقْتَ؟ قالَ: كَلَّا وَاللَّهِ الذي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقالَ عِيسَى: آمَنْتُ باللَّهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي».
والتطبيق على أرض الواقع ليس بتلك السهولة؛ إذ يحتاج إلى مران لتصبح عادة حميدة، ولكن في الغالب علينا الأخذ بظواهر الأمور؛ لأنها أسلم وفيها حسن الظن، والله «سبحانه وتعالى» يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ».
وبوضوح أكثر، إذا كنا سنعتاد على الظن السيئ، ومحاولة التوقع لما في قلوب الناس! فسوف نُتعب أنفسنا كثيرًا، وندخل في دائرة الشك التي لا نهاية لها، ولن نرى راحة البال أبدًا من قول نسمعه أو من فعل نراه أو حتى من رسائل نصية كثيرة تصل لنا قد يكون الطرف الآخر لم يُحسن صياغة الجملة! ففهمناها بشكل مغلوط أو ربما نؤّولها بشكل خاطئ.
أفلا شققت عن قلبه.. درس للحياة وطريق لراحة البال في التعامل مع الكثير من المواقف والأحداث!
abdullaghannam@