قبل الثورة المعلوماتية الهائلة التي نعيشها اليوم، عرفت الرسائل ومنها الرسائل الأدبية لكبار الأدباء والمفكرين التي تحمل ضمن مفرداتها خصائص أدبية وعلمية متعددة، فوسائل الاتصال السريعة أدت إلى تقلص تلك الرسائل واحتجابها، وما خلَّفه لنا الأوائل يُعتبر إرثًا يحمل عدة دلالات أدبية ذات أهمية خاصة، فها هو حفني ناصف يرسل لأحد أترابه رسالة يقول فيها: «يعلم الله ما عندي من الشوق إلى لقاء صاحبي، وإن لم يرَه البصر.. والشوق إلى شهوده وإن لم يكتحل بأثمد محاسنه النظر.. والشغف بسماع الحديث منه كما سمعته عنه.. فقد سبقت ذكرى محاسنه إلى السمع.. ووصل خبر لطائفه إلى النفس.. وما المرء إلا ذكره ومآثره.. وحسدت العين عليه الأذن، وودت لو أنها السابقة إلى اجتلاء رقائقه وشهود حقائقه».
ومثل هذه الإرهاصات الأدبية التي جاءت في تضاعيف رسائل أساطين الأدب العربي كثيرة، وفيها من اللطائف والظرائف ما لا حد له ولا حصر، وهي ذات مسالك متشعبة كالتقاضي والشكر والتعزية ونحوها، فها هو الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية السابق يبعث برسالة للشاعر حافظ إبراهيم يشكره فيها على قيامه بترجمة كتاب البؤساء لفيكتور هيجو من الفرنسية إلى العربية، فيقول: «لو كان لي أن أشكرك لظن بالغت في تحسينه.. أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينه لكان قلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك، ويجري في الشكر إلى الغاية، كما يطلبه فضلك.. لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عمَّمت به مَن حولنا.. وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.. زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها، وملكت فيهم يومها.. ولا تزال تنبه منهم خامدًا.. وتهز منهم جامدًا» إلى آخر هذه الرسالة اللطيفة التي تنضح بجميل الكلام وأعذب العبارات، وأكتفي بالرسالتين كنموذجَين من تلك الرسائل الأدبية التي تُضاف بكل فخر واعتزاز إلى ما خلَّفه أولئك الأدباء من آثار فكرية فذة.
[email protected]