تنحني لترفعها، رغم أنها يابسة! «لأنها نعمة»
قطة مشردة تمرّ -فجأة- دون أن تكترث بك...
تكبح انطلاقتك وتوقف سيارتك بكل ما أوتيت من قوة، كي تعبر! «لأنها روح».
طفل يلتفت إليك من المقعد الذي أمامك في الطائرة، يصرخ بوجهك...
تبتسم له بلا تردد! «ليطمئن».
عابر جاء مع صديقك إليك، لم تره من قبل...
تحيِّيه وترحب به بكل ما تملك من ضيافة وكرامة! «لأنه ضيف».
وقريب لك ومنك، قد يكون فيه من يبس الخبزة التي رفعت، ومن صلف القطة التي لم تكترث بك، ومن صراخ الطفل بوجهك، أفلا يكون له -على عِلاته- ما كان لهم من لين ذات الجنب، ورفع اللوم والعتب، والمعاملة الرائقة، ودفن صراخ الذكريات بالابتسامة الصادقة.
لا لشيء إلا لأنه نعمة وإن قسا، وبين جنبيه روح وإن هفا، وتلجمة البسمة منك وإن جفا، وعابر أحدكما عن صاحبه -لا محالة- مهما بقى.
ستجيبني بما قيل في المثل:
«كيف أعاودك وهذا أثر فأسك»!
ليأتي السؤال: ألم تكن صاحبة المقولة هي الحية، التي تسببت في القتل أولا؟
ولذا، فمن الجميل أن نتذكر عند محاولة تبرير مواقفنا، سنجد أن المقابل لديه ما يظن بأنه مُبرر، لنجد أنفسنا بما يمكن أن نسميه «دائرة الهلاك للعلاقات»، التي لا بداية لها ولا نهاية.
فعلام إذن نستحث ما مضى وقد انقضى، وإلى متى ننتظر المبادرة من المخطئ، في حين أنه لن يفعل، لعلمه بأنا لن نقبل!
أتخشى من التمادي! أم يئست من عظيم التعدي! أم مللت من التكرار المؤذي؟
يحق لك أن تشعر بذلك كله، فليس من المنطق أن تمر زلاتهم دون أثر، أو شيء من الألم، أو القهر، غير أنك تعلم يقينًا أن الترفع يزيدك ولا ينقصك، ويعلو بك ولا يقل من قدرك، إذ القدرة على التجاوز أعظم قوة من التصدي، كما قال الأحنف:
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
كما أن الكرامة ليست ثوبًا نشتريه، ولا ماءً باردًا نرتويه، إذ هي أشد مما نظن بأسًا، وأصعب على النفس قدرة وقدرًا، فمن المعتاد أن نقول: «إنّ كرامتي لا تسمح لي بالصمت» فضلا عن العفو والصفح، ويصحبها رفع الصوت وعظيم التجهم والتبرير للهجوم وكبح المقابل، في حين أنا لا نكاد نجد مَن يقول: «إن كرامتي لا تسمح لي أن أهين أو أؤذي من بيدي القدرة عليه»!
وذلك حقا هو «الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
لنكن في الحياة «حياة» لمَن حولنا، دون أن ننسى أنفسنا، لتكون الدنيا رائعة بنا، فتنشرح بها صدورنا، ونتجاوز عظيم همومنا، وليس ذلك يسيرًا إلا لمَن كانت كرامته تفوق قدرته.
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجساد
ويا مَن بيدك حروفي تذكر:
مهما طالت الأيام تبقى معدودة، ومهما كثرت الزلات، فهي في بحر كرمك مفقودة، وما هي قيمة الدنيا بالصد؟ وما الحياة بلا نعيم الود؟
كتبه