كنت قد زرت الأحساء لأول مرة في العام 1373هـ عندما كنت طالبا صغيرا في المدرسة الابتدائية بالدمام، وكان أكثر ما هالني فيها هي أسراب الذباب، التي تموج في شوارع الهفوف، والتي لا تستطيع مكافحتها وصدها حين تصطدم بوجهك وأطرافك، وكأنها أمواج البحر.. ثم زرتها خلال السنوات الأخيرة ثلاث مرات، كانت أولاها بدعوة من معالي الدكتور عبدالله العبدالقادر مع مجموعة من الزملاء، تقديرا وتعبيرا كريما منه لعلاقة الزمالة والصداقة، التي تربطنا مذ كنا زملاء في جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الثانية بدعوة من النادي الأدبي بالأحساء للمشاركة في الندوة، التي أقامها لتأبين الزميل الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، -رحمه الله-، أما الزيارة الأخيرة فكانت منذ أيام قليلة ضمن رحلة شتوية سنوية تقوم بها مجموعة من أعضاء مجلس الشورى القدامى، بدعوة من الزميل الكريم الدكتور زياد بن عبدالرحمن السديري.. وشتان بين الأحساء التي شاهدتها أثناء زيارتي الأولى، وبين ما شهدتُه وشاهدتُه في زياراتي الثلاث الأخيرة من نهضة وتطور في جميع مناحي الحياة، من اتساع في الشوارع مع نظافتها وتنسيقها، ومن تطور عمراني، وحركة تجارية لافتة، ونهضة تعليمية واضحة، وبيئة صافية نظيفة، وقبل ذلك وبعده هناك أهلها الطيبون، ومجتمعها المترابط الودود، المحافظ على الكثير من العادات والتقاليد المحمودة، وفي مقدمتها الحرص على التواصل وأعمال البر والتطوع، لاسيما العادة المحببة، التي ربما ينفرد بها ذلك المجتمع، وهي مجالس الأسر، حيث تختص كل أسرة بمجلس يتسع لجميع أبنائها تلتقي فيه دوريا، وفي المناسبات والأعياد، وتوفره مجانا لمناسبات الزواج الأول لأبنائها، وليس غيره من الزواجات، حيث يتميز معظم أبناء الأحساء، -إن لم يكن كلهم-، بأنهم موحدون، كما عرفنا، وقد زرنا اثنين من تلك المجالس لكل من أسرتي الجعفري والبراك، وذلك بدعوة كريمة من كل من معالي الدكتور عبدالرحمن الجعفري، ومعالي الدكتور عبدالرحمن البراك، اللذين أحاطانا بالكثير من كرمهما وعنايتهما.
ومن الناحية الأدبية، تشتهر الأحساء بالكثير من الأدباء، الذين تركوا بصماتهم واضحة في نهضتها الأدبية، وأذكر منهم أستاذي في المرحلة الابتدائية الأديب عبدالله أحمد شباط، -رحمه الله-، أما الشعر والشعراء فتزخر الأحساء بالكثير من الشعراء، الذين تغنوا بها، وخلدوا مآثرها في أشعارهم، يحضرني منها أبيات للشاعر محمد الأحدب يقول فيها:
هبّ النسيم على هجر فقال لـــها إني أحـبك، بالتقبيل أخــجلـــــها
والعاشقون تغنوا في الحسا طربا كـل يريـــد أن يحظى بخطبتــــها
هي الأحسا جمالا ترتدي حللا الرأس منها يضاهي حسن أخمصها
روائح المسك من نخيل الحسا نبعت في زهوة التمر والريحان مطلعها
وحول ما تحفل به الأحساء من إرث تاريخي وآثار ومآثر،، أذكر أن مضيفنا الكريم قد وفر لنا في زيارتنا الأخيرة برنامجا حافلا لزيارة الكثير منها والوقوف عليها ومعرفة الكثير عنها، ومن أهم ما غطته الزيارة قصر إبراهيم باشا التاريخي، والمدرسة الأميرية، ومسجد الجبري، وسوق القيصرية، ومتحف القهوة، وميناء العقير التاريخي، وشاطئه الجميل، وجبل القارة الفريد من نوعه، ومسجد جواثا التاريخي، ومصنع الفخار، ومخبز الخبز الحساوي المشهور، ومزرعة الريف التي تحتوي على مزرعة للفراولة، ومطاعم وجلسات جميلة، وحتى حديقة للحيوان، وهي بمثابة متنزه عام لأهالي الأحساء وغيرهم.
وقبل أن أختم أقول إن الأحساء زاخرة بكنوز قيمة تتمثل فيما تملكه من ثروات وإرث وآثار، وتطور في جميع المجالات، وهو ما يؤهلها لأن تكون موطن جذب سياحيا ليس على المستوى الداخلي للمملكة، وإنما عالميا، فيما لو حظيت بالمزيد من الإعلام السياحي من وزارة السياحة، وغيرها من الجهات الإعلامية وشركات الإعلام وشركات السياحة، وهو ما نرجوه، وأمثّل بواحد من أهم معالمها وهو جبل القارة العجيب، فهذا المعلم يستحق الزيارة لأنه لا يوجد معلم سياحي آخر ينافسه عالميا في إبداع صنع الخالق، وعناية المخلوق، وأقصد بذلك اعتناء حكومة المملكة به، وأخيرا لا يفوتني أن أذكر أنه رافقنا في هذه الجولات السياحية، وعرّفنا على الكثير عنها المرشد السياحي الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله العمير، فله وافر الشكر والثناء على إجادته، وتمكنه من عمله.
والله من وراء القصد.
رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الأسبق