غادرت المبنى الغربي رقم «1»، الذي غربت من خلاله سنوات الخدمة أو هربت بعد التوقيع الأصعب بحياتي، اتجهت لموعدي الطبي في «مستشفى جون هوبكنز» في نفس اليوم، وعندما أقبلت للعيادة لم تكن نظرتي للمستشفى وكوادره وزواره كالمعتاد، بل كأنني أمام فيلم سينمائي واقعي استغرق إنتاجه عشرات السنين، فمع بداية الفيلم مررت على العديد من العيادات أهمها عيادة الأطفال، تذكرت عندما كنت أخذ أطفالي لتلك العيادة، وبعد ذلك كنت أمر بجانب عيادة الكبار، حيث شاهدت المراجعين من آباء وأمهات الموظفين، منهم مَنْ يمشي ببطء قد أثقلته السنين مستعين «بعكاز» أو متكئ على أحد الأبناء، ومنهم مَنْ جلس على كرسي متحرك ينتظر دوره للدخول على الطبيب.
وفي تلك اللحظة، وجدت نفسي أعود لسنوات مضت لكنها بقيت في الذاكرة، حيث تذكرت عندما كنت أدفع والدي -رحمه الله- على الكرسي المتحرك، وفي ذات الوقت كانت ذاكرتي تتجه عكس خطواتي، فبينما كنت أدفع بكرسي والدي المتحرك للأمام كنت أعود بالذاكرة للوراء وأتخيل كيف تحول والدي القوي بالأمس إلى إنسان ضعيف على كرسي متحرك أنهكه الكبر، تذكرت مقولة شكسبير الشهيرة «الحياة عبارة عن مسرح كبير»، فعلا هي كذلك، وكل منا يلعب دوره، فمن الناس مَنْ انتهى دوره، ومنهم مَنْ ينتظر دوره!
غادرت المستشفى، ولم ينته الفيلم بعد، فقد عشت لحظات امتزج فيها الحنين إلى ما مضى من سنين، والتفكير بعمق في كيفية التعايش بعد التقاعد ومغادرة الشركة.
وعندما بدأت في نسخ الملفات والصور والمستندات الخاصة بي وغيرها من الصور والمذكرات وجدت كما هائلا من الصور والمستندات والدعوات وشهادات شكر.
فقد منَّ الله عليّ أن وفقني في العشرين عاما الأخيرة من حياتي العملية بالشركة في التعامل مع المتدرجين الرائعين، ثروة الشركة البشرية وقلبها النابض، وبعد ذلك أكملت الفصل الأخير من مسرحية المسيرة العملية مع الزملاء في لجنة السلامة المرورية، فكان من الطبيعي أن مررت على كل مناطق الشركة وألقيت المئات من المحاضرات لأبنائي من الطلاب وزملائي من الموظفين والموظفات.
وكانت نهاية الفيلم مع استرجاع تلك الطاولة المستديرة في «الدايننق»، التي يجتمع حولها المتقاعدون كل صباح ولسان حالهم يقول «تقاعدنا ولكن ما تباعدنا!» يا له من حب وانتماء للشركة، هأنا انتظر بفارغ الصبر إقلاع الجائحة لكي أهبط في مدرج المتقاعدين وأنضم لهم، وأخيرا وجدت نفسي أكتب هذه الأسطر، التي لا ولن تكفي أو تعبر عما بداخلي من مشاعر نحو الشركة، ومن الطبيعي أن كل مَنْ لديه ولاء لعمله سيجد صعوبة عندما يودع زملاءه، ولن تسعفه الكلمات التي تتسابق معها دموع الوداع.
ما يبهج النفس أن يفخر المرء بأنه كان يعمل في شركة ما تغيب عن مواقعها ومكاتبها ومعاملها الشمس، كم هي صعبة ساعة الرحيل ولكن العزاء أن الجسم «الهارد وير» فقط مَنْ سيغادر الشركة بينما القلب والروح والولاء والانتماء «السوفت وير» سيبقى مادام القلب ينبض بالحياة.
Saleh_hunaitem@