امتع وأجمل فترة جامعية بالنسبة لي كانت مرحلة زمالة ما بعد الدكتوراة التي قضيتها في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT إم آي تي) في الولايات المتحدة الأمريكية. كنت هناك للعمل على مشروعي البحثي وهو كتاب عن العمارة والعمران المعاصر في دول الخليج آخذة بعين الاعتبار التحولات التاريخية والسياسية للدول وانعكاساتها على تشكيل العمارة عبر عقود القرن العشرين وحتى يومنا هذا. ورغم عملي وتركيزي على البحث إلا أن إم آي تي كانت بالنسبة لي بيئة خصبة للتعلم. ورغم ارتباطي بقسم وكلية إلا أن الجامعة بأكملها كانت مفتوحة أمامي. هذا الانفتاح كانت له عدة أوجه، فمن ناحية كان الحرم الجامعي مفتوحا ومرتبطا بحيث ينتقل الشخص من قسم إلى آخر بكل سلاسة وتدريج فيرتبط قسم الموسيقى بالفيزياء والعمارة والكيمياء وهندسة الفضاء وهكذا فيسهل التعرف عليها. أقسام متداخلة يتقاسم فيها عدد من الكليات مباني وفصولا ومعامل يصعب معرفة حدود كل منها. حتى المباني المنفصلة في الحرم الجامعي كانت جميعها مرتبطة في دور القبو لتسهيل التنقل.
أثناء تواجدي هناك شعرت بأنني أنتمي للجامعة ككل وليس بالتحديد لقسم؛ وذلك من كثرة فرص الاطلاع على ما يجري من محاضرات عامة لشخصيات بارزة ومؤتمرات علمية يحاضر فيها رواد المجالات العلمية.
في إم آي تي درست العمارة كتخصص ولكنني تعلمت أمور الإدارة وريادة الأعمال والابتكار وبراءات الاختراع والحقوق الفكرية وتحويل الأفكار إلى منتجات. تعرفت على علماء بقمة التواضع وباحثين مخضرمين. لم أشهد تجمعا أكاديميا إلا وبه أشخاص من تخصصات مختلفة يحضرون بذهن منفتح ليتعلموا أولا ثم ليتساءلوا كيف يمكن لما تعلّموه من تخصص آخر أن يثري أبحاثهم. هذا التداخل في التخصصات والتكامل البحثي جعلهم في قمة قوائم نشر الأبحاث وجعل مدخول اختراعاتهم والشركات التي نشأت عنها بحجم سابع أكبر اقتصاد في العالم، وجعل الجامعة تحتل أحد المراكز الثلاثة الأولى لتصنيف الجامعات عالميا لسنوات كثيرة. أحد الأساتذة كان يروي قصته مع مخترع هاوٍ لا ينتمي للجامعة يحضر كل بضعة أشهر معلنا أنه توصل لاكتشاف جديد ويطلب من البروفيسور أن يعطيه فرصة إطلاعه عليه فيلبي دعوته. سألته إن كانت زياراته قد أثمرت عن اختراع فعلي فنفى ذلك، ثم سألته لماذا يضيع وقته إن كان احتمال نجاح هذا الهاوي ضئيلا؟ فقال انه يستمتع بتبادل الأفكار معه وانه حتى هذا الاحتمال الضئيل كافٍ كمبرر للاستمرار بتلك العلاقة لعلها يوما ما تثمر اختراعا مهما.
في إم آي تي لفت انتباهي شيء مهم وهو أن محور العمل يجب أن يكون دوما هو الإنسان والهاجس الأبدي هو كيف يمكن لنا أن نحسن حياته. لم تكن الحياة الأكاديمية مباني وتجهيزات بالدرجة الأولى، بل كانت بالأساس كل ما هو غير محسوس من توفير بيئة خصبة لتلاقي الأشخاص وتلاقح الأفكار في بيئة إيجابية تسمح بالاستكشاف والتجربة ولا تدعي معرفة النتيجة لهذا الاستكشاف مسبقا. وأخيرا لن أقارن بما لدينا ففي ذلك إجحاف؛ نظرا لقصر تجربتنا الجامعية من ناحية واختلاف مستويات الكليات والجامعات في المملكة من ناحية أخرى، بل أكتفي بأن أدعو من أعماق قلبي أن نتجه أكثر لهذا النوع من الحياة الأكاديمية.