بعد عشرين عاماً من الكتابة في الصحف ومثلها أو أكثر قليلاً من العمل الأكاديمي وسنوات من القراءة والبحث والتحليل والنقد الأدبي، وما زلت وغيري ممن سبقوني أو جاءوا بعدي نتعلم من أخطائنا ونصوب هذا وننقح ذاك. نفتح المعاجم ونتعلم، ونبحث عن المعلومة لنستفيد ونفيد، وبعد أن تخلصنا من كثير مما كتبناه في مراهقتنا، بعضه محاولات شعرية، وبعضه محاولات نثرية كنا نعلم أنها مجرد خواطر ذاتية حاولنا أن نموسقها لنسعد بها. بعد عشرين عاماً اتصلت بدار للنشر للاستفسار عن خطوات التعاون معهم كانت الأولى في دولة خليجية شقيقة فكان ردهم: نحن نعتذر فقد خصصنا هذا العام لكتاب دولتنا فقط! ومع أن فكرة التخصيص هذه غريبة إلا أني قلت حسناً لكم ما تريدون وبعد وقت قصير رأيت أن معظم الانتاج الذي ظهر هو لكتاب صغار في السن وبخبرات حياتية متواضعة وبالتالي تأتي مؤلفاتهم بلا نكهة ولا هوية، فأنت لا تدري هل ما حاولت أن تجبر نفسك على قراءته- من باب العلم بالشيء- هو قصة أو مقالة أو قطع منتقاة من دفاتر التعبير المدرسية؟ انتقلت بعدها لدار نشر أخرى سعودية فقال لي المسؤول لا ننشر المقالات الموجودة في (النت) لأن من يريدها سيجدها هناك. فتعجبت وقلت لا تنشر المنشور ثم تبحث عن التوافه لتقدمها فقال هذه التوافه تجد من يقرؤها لأنها جديدة!!
بالتأكيد ليس هذا هو حال دور النشر جميعاً ولكنها أصبحت ظاهرة ملفتة جداً فهناك شباب يتلهفون للشهرة، وهناك دور للنشر تأخذهم بالخديعة وتوهمهم بأنهم أصبحوا من الأعلام البارزين وأن مؤلفاتهم تنفد من الأسواق وتطبع مرة بعد أخرى!! والملاحظ من متابعتي لكتابات إحداهن أن هذا الأمر لا يعينها على اكتشاف مواطن الضعف لديها ولا تصحيح ما اعوج من أسلوبها الكتابي بل إنها لا تكلف نفسها عناء البحث عن معاني المفردات التي تستخدمها! إذ يبدو أنها تختار الكلمات بناء على تأثيرها فيها فقط حين تتخيل أن التعبير بهذه المفردة (واو رائع) ومن هنا قد تجدها تتحدث عن (هجير الشتاء) أو عن (التمدد الأخلاقي) لقد فتحت الصحف بعض صفحاتها لنماذج من هذه وذاك من باب أفسحوا المجال للشباب. نعم، لا مانع سيفسح لهم ولكن لماذا لا تعطونهم جرعات من الثقة بطريقة أخرى لا تؤذيهم ولا تؤذي غيرهم؟. لماذا يفسح لهم ليكونوا سبباً في فساد ذوق الشباب الذين بدأ مشوارهم مع القراءة من هذه النماذج التي يرون أنها تعتبر نموذجاً للنجاح بالنسبة لهم؟. كيف لا وبعضهم ينشر في خمس أو ست مطبوعات في وقت واحد وأنت حين تقرأ له أو لها ستجد عجباً من ركاكة الأسلوب والتراكيب ذات الأخطاء الفادحة.
في معرض الرياض للكتاب كان هناك ندوة خصصت للشباب يتحدثون فيها عن تجربتهم وحرصت على حضورها لأستمع وأرى فلعلي أكون مخطئة في الحكم. جلست بالقرب من فتاتين رأيت إحداهما كانت مهتمة وتلتقط بعض ما يقال وتدونه في أوراق بين يديها فسألتها إن كانت قد قرأت مؤلفات المتحدثة فقالت: نعم، إنها تكتب نصوصاً أدبية. فسألتها أي نوع من النصوص؟ فقالت: نصوص أدبية وهي تنظر إلي بريبة، وكأنها تود أن تقول لي: ألا تعرفين النصوص الأدبية يا جاهلة!! لقد كانت المتحدثة في تلك الجلسة لم تصل إلى منتصف العقد الثاني من العمر ولكنها أصدرت أربعة مؤلفات!! وتقول: إنها أصدرت كتابها الأول وهي في السنة الجامعية الأولى! وأتوقع أنها اعتادت أن تصدر كتاباً كل عام؛ لأنها أصدرت حتى الآن أربعة مؤلفات!! كم أشفقت عليها وعلى أقرانها الذين سيجدون فيها مثالاً يحتذى وبخاصة بعد أن حرصت على شراء أحد مؤلفاتها لأفهم معنى النص الأدبي.
كتاب من تسعين صفحة يحمل رسالة أو عدة رسائل كتبتها لأمها ولكل الأمهات بأسلوب لا هو شعري ولا نثري فهو هجين ولو من باب الشكل وتوزيع الأحرف بطريقة توحي بأنه الشعر وما هو بالشعر. والحق أن لها لغة سليمة وجميلة كان بالامكان أن تستثمر تدريجياً بما هو أوضح شكلاً ومضمونا. ولكن الغريب أن الغلاف الخارجي للمؤلف لم تحدد هويته، فقد اكتفوا بالإشارة إلى أنها الطبعة التاسعة!! وحين تفتح الكتاب ستجد أنهم قدموا لك الكتاب كرواية!! وهو لا يمت للرواية بصلة أبداً أبداً!! وبالتالي لا بد من التساؤل: من هم هؤلاء الذين يعملون في بعض دور النشر ويختارون ويضعون المسميات كيفما اتفق!! ويصرون على إفساد العقول بل وحتى افساد طموح بعض الصغار الذين نشروا لهم مواد كتابية لا لون لها ولا طعم سوى أنها أحياناً تظهر بدايات مقدرة كتابية بحاجة إلى أن تنمى وتتطور قبل أن يخنقها الغرور جراء الطبعات المتعددة، أو تنبري ألسنة المدافعين عنهم من متابعيهم في تويتر والانستغرام بالسب والشتم لكل من يقترب منهم أو تسول له نفسه أن ينتقد تماماً كما يحدث مع متابعي الفنانات لأنها لا تؤثر بما تكتب قدر تأثيرها بما تملك من مهارات الدلع والتصنع وهذا نتاج أصدرته بعض دور النشر كما أصدرت بعض برامج الفن فنانات بمستوى هيفاء وهبي ليس لها من الفن سوى جسد يتمايل وتصنع في النطق ومهارات عالية في تسويق الدلال.