نعم هذه الطرق لم تولد مع الإنسان، وإنما يقذف فيها قذفا بعد الولادة، والأفكار المسبقة عنها لا ترتبط سوى بالأحاسيس المحيطة بجسد الطفل فقط، وحتى المخيلة لا تعمل بكامل لياقتها. لذلك كل صوت يرتد على نفسه يسمى طريقا، وهذه خبرة لا تقاس إلا بطول اللغة التي يتسلقها الإنسان ولا يسقط.
نعم مفاجآت الطرق ليس لها حد، وليس لها تنبؤات على الإطلاق. بدايته مثل نهايته. ولأنك لا تملك ذاكرته بالكامل، ولا عشت مع الذين عاصروه منذ بداياته كما يراه البشر، فإنك تبتكر القصص كي تخفف على نفسك وحشة تلك المفاجآت. وكلما ابتكرت أكثر انخلع باب من أبواب الذاكرة. لكن لا أحد عنده القدرة أن ينفلت من آثارها مهما ابتكر الكثير منها.
فكرة الطرق هنا مجرد تشبيه، تقترب من وجوه عدة بفكرة الكتابة، بل ثمة رابط قوي يجعل من هذا التشبيه بمثابة الارتباط العضوي بين الاثنين. فحينما يخط المرء بقلمه كتابا أو سطرا على أقل تقدير، سرعان ما تتحول الكتابة إلى فكرة طريق في الذهن، وهذه الفكرة تكون في البداية مجرد إحساس لا تتضح معالمه عند المرء إلا إذا احتلت الكتابة ومضامينها مساحة شاسعة من تفكيره وشخصيته، وهذا يحدث تدريجيا شيئا فشيئا، مثلما يرى الإنسان من بعيد طريقا. لكنه بسبب بعده لا يملك من هذا الطريق سوى الإحساس به بينما حواسه ليست متيقنة منه تماما. أيضا الكتابة إضاءة وحفر ومسالك واكتشاف مناطق في الحياة كما هي الطرق، وما يجري هناك يجري هنا فوظائفهما واحدة غير أن أحدهما يتعلق بالأجساد والآخر بالعقول دون أن ينفصل تأثير الواحد منهما على الآخر. قد يحدث أن يتيه الكاتب في طرق الكتابة فلا يجد مخرج طوارئ إلا إذا ضحى بأشياء كثيرة في حياته، كذلك إذا تاه الإنسان عن الطريق وأخذته المتاهة إلى صحراء لا ماء فيها ولا زاد، فهل بإمكانه أن يضحي بأشياء ثمينة من حياته حتى يستطيع العودة إلى الطريق الصحيح مثلما هي الكتابة؟ هنا مأساة الإنسان في الحياة، لا يستطيع أن يلتفت إلى الوراء ويصحح بينما في طرق الكتابة نستطيع أن نلتفت ونصحح ونغير شروط اللعبة في الحياة.