في يوم الخميس الماضي كنت أحد مئات المسافرين الذين علقوا في مطار الملك فهد بالدمام؛ بسبب عواصف «الغبار» التي شلت المطارات والقطارات والموانئ. ومنذ اللحظات الأولى للفوضى التي أعقبت تراكم الرحلات، أدركت أن الوصول براً للرياض هو أنجع الخيارات، وعند وصولي براً لمواقف مطار الملك خالد في الرياض وجدت أحدهم كتب على الغبار المتراكم على سيارتي: (عزيزي الحظ.. هل تقبل الرشوة)، حينها قلت في نفسي كم حمل «الغبار» من حروفنا وتوقيعاتنا.
«الغبار» في الثقافة العربية والعالمية كان حاضراً وراسماً لكثير من المعاني، وكان يأتي أحياناً بلباس إيجابي على المعنى المقصود، واقترن كثيراً بالعمل والإنجاز والعطاء، والعرب قديماً كانت تقول: (غبار العمل خير من زعفران العَطَلَة)، فالغبار يرسم لوحة جميلة إذا ما كانت ألوانه من أصباغ العمل.
في ثقافة الحرب يظهر «الغبار» كضباب وسيم فوق ساحات المعارك، ورائحته منعشة لا تعرف الخنق إذا ما بعثته أقدام المقاتلين، وكما يقول الشاعر معاذ بن صرم الخزاعي: (عطري غبار الحرب لا عبق المسك)، وأهم ما قيل في غبار الحرب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار».
«الغبار» يتحول إلى كائن حنون عندما ينفذ الفراق حكمه، فهو يواسي القطع المهجورة بعدما نغادرها، والكتاب الذي أضناه الهجران يأتي الغبار ليضمد أنينه ويدفيه من برد الوحدة.
«الغبار» عازل يجيد فن التزييف، ولذلك قالت العرب: (سترى حين ينجلي الغبار أفرس تحتك أم حمار)، وربط السومريون قديماً «الغبار» بخداع الفقر، فكانوا يقولون: (يظن الثور أن الغبار الذي في عينيه من أثر أقدامه طحيناً)، فالأوهام التي يراها الفقراء تجعلهم يظنون الغبار طحيناً، ولذلك ليس من الغريب أن يرتبط «الغبار» بالنفاق، وما أبلغ نزار قباني عندما قال: (لأنني لا أمسح الغبار عن أحذية القياصرة يشتمني الأقزام والسماسرة).
الصينيون كانوا ظالمين عندما ربطوا المرأة بالغبار، واختطوا خطاً مجحفاً في تجديد المرأة وعطائها، وما أقسى المثال الذي يردده كهولهم في بكين: (المرأة كالسجادة كلما ضربتها بالعصاة تخلصت من الغبار العالق بها ونظفت)!!.
كتبت قديماً عن «الغبار» وقلت: (لا يوجد ذرة رمل تعتبر نفسها مسؤولة عن هذا الغبار.. وكذلك نحن)، فالعواصف الغبارية مجهود عظيم وأثرها بالغ على الناس، ومع ذلك فهي نتاج حبيبات صغيرة من الرمل، وهنا نتعلم كيف تكبر أعمال الصغار إذا انتظمت.
بعد كل «غبار» نعلن حالات الاستنفار لمسح آثاره عن منازلنا، وكان بابلو بيكاسو يقول: (الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية).
«الغبار» أنواع.. تفقدوه وامسحوه..