نشأة المؤسسات العامة في بلاد لم تعرف الوحدة السياسية إلا في ثلاثينيات القرن العشرين لم يكن أمراً سهلاً، ولا متقبلاً بيسر لدى الناس الذين تعودوا على حل مشكلاتهم بالطرق الاجتماعية التقليدية، دون حاجة إلى التنظيم المؤسساتي الذي يعيق الاعتبارات الفردية لمقامات الناس، والنظر إلى الموروث من العادات والقيم بدلاً من المعايير القانونية. والأمر نفسه تقريباً كان سائداً فيما نشأ آنذاك من المؤسسات التجارية الخاصة؛ إذ لم تكن الخبرة، ولا مضاهاة العمل في شركات أخرى شبيهة في البلدان الأجنبية، كانت من معايير إدارة مثل تلك المؤسسات الخاصة. لكن الأمور يفترض أن تكون تغيرت في بلد مثل المملكة العربية السعودية بعد مرور أكثر من ثمانية عقود على قيام تلك المؤسسات، واكتسابها الخبرة اللازمة للعمل ضمن منظومة تتطور مقارنة بتطور الفكر العالمي في ذلك النوع من الخدمات التي تقدمها كل مؤسسة فيما يوكل إليها من أعمال.
لكن واقع بعض المؤسسات الحكومية لم يختلف كثيراً عن تلك المراحل الأولى، بالرغم من مظاهر التحديث، وحجم المباني والمكاتب التي يجلس عليها السادة الموظفون ومديروهم؛ لكن جوهر العمل المؤسساتي المتسق مع وظيفة المؤسسة العامة، أو الفرع الذي يشتغل فيه أولئك الناس، لم يتطور إلى الدرجة التي تناسب ما يُصرف على تلك المباني والأجهزة الحديثة، ولم يواكب ما يتوقعه الناس المتفائلون بارتقاء فكر العاملين في تلك المؤسسات والمخططين لأعمالها، وكذلك المقوّمون لأدائها من كبار المسؤولين، أو الجهات الرقابية المعنية.
نأتي على سبيل المثال لا الحصر بنماذج من المؤسسات الحديثة نشأة وتمويلاً، كالمؤسسة العامة للاستثمار؛ فقد رأيت مقابلة تلفزيونية مع أحد المستثمرين الأجانب الذي دخل السوق السعودية مؤخراً، وكان يشتكي فيها من عدم تجاوب الموظفين الذين يراجعهم في تلك المؤسسة مع ما هو مكتوب من أنظمة الاستثمار. ولربما كانت الأنظمة المكتوبة في بداية نشأتها عام 2005م غير مناسبة، كما فهمت من بعض من تحدثت معه بهذا الشأن؛ لكن ذلك الأمر ليس مبرراً بألا تتعامل بما هو مكتوب منها، وإذا كانت غير فاعلة، أو لا تحقق الأهداف المطلوبة، فلتغيرها الجهات المعنية. فليس الحل بأن نقول: عندنا أنظمة كذا وكذا؛ أما ما يُطبق فهو مختلف عنها.
ومثال آخر هو البريد السعودي في وضعه المالي والتجهيزي الجيد حالياً؛ لكنه لا يختلف في أدائه كثيراً عن بريد «الخياش البيضاء» والسيارة الصفراء. إذ أصبح كثير من الناس والمؤسسات الخاصة لا يعتمدون عليه في إيصال ما يريدون نقله من مكان إلى آخر. ورغم وفائي للطرق التقليدية في التعامل، إلا أني تقبلت آراءهم بعد أن فقدت إرساليات كنت قد بعثتها بالبريد، وتأخرت أخرى غيرها تأخيراً غير مبرر؛ فبالرغم من وجود ما يسمونه الآن «تقفي الأثر»، إلا أنك تبحث عن الإرسالية بعد مرور ضعف ما قالوه من الزمن، فتجد أن آخر مرحلة هي في المدينة التي أرسلت منها. وكنت شاهداً في إحدى المرات على محاورة يسأل فيها زبون عن إمكانية إرساله علب «صلصة» ضمن طرد إلى السودان، فكان الموظف لا يعرف إن كان ذلك مسموحاً، وليس عنده أي أحد في ذلك الفرع يستطيع أن يجيب عن السؤال.
أما الجانب الآخر الذي تتجلى فيه عدم الفاعلية، فهي قضية تداخل المؤسسات العامة في الصلاحيات. فقد حكى لي أحد الزملاء الذي رُشح لتولي إدارة كرسي علمي أنشئ في جامعة أجنبية، بأنه بعد مضي سنة لم يستطع العمل خلالها، لأن الوزارات المختلفة تتقاذفه بتعقيدات وتضارب مسؤوليات، فأين الحلول؟.
*أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود