في الأسبوع الماضي كنت في مجلس أحد الفضلاء، وكانت الأحاديث متنوعة ومتباينة كعادتنا في مجالسنا الاجتماعية، وبدأ أحد الحاضرين بسرد قصة بتفاصيل كثيرة ومعقدة، ومن المفارقات أنني وقفت شخصياً على تفاصيلها وأعرف كل كواليسها ولم يكن يعرف هذا المتحدث بذلك، وكان سرده جميلاً ومدهشاً للحاضرين، ولكنه بكل أسف لم يكن يمت للحقيقة بصلة، وكان عنده "طرف علم" كما يقال فقط، وبعدها تحدثت معه على انفراد عن حقيقة هذه القصة ومصادره فكانت دهشتي أنه وصل إليه جزء صغير من القصة فقام هو بإكمال القصة من خياله وعضدها بما يتوقع حدوثه، وكان - هداه الله - يعرض تحليله للموضوع على أنه خبر مؤكد، وكان يقول لي: (واضحة يا خي ما يبيلها ذهانة)، وكان يقصد بهذه العبارة أن تحليلاته قطعاً ستكون حدثت لأن التدرج المنطقي بمعطيات جزء من القصة سيجعل السيناريو الباقي محسوماً ومعروفاً.
«طرف علم» هو أحد عيوبنا التي نقع فيها اليوم، فنحن نطلق أحكاماً قطعية من معلومات ظنية، ونجعل من خيالاتنا مصدراً موثوقاً للمعلومة، وهذا يجعلنا أمام مخرجات خاطئة ومدمرة أحياناً.من أبجديات "الخبر" ألا يختلط بالتحليل والاستنتاج، فالرأي يجب أن يطرح على أنه استنتاج ووجهة نظر حيال الخبر وليس خبراً بحد ذاته. المشكلة تقع في وعينا عندما نستقبل "المعلومة الأولى" وتكون خاطئة، فالمعلومة الأولى تمكث طويلاً وتحتاج لجهد معلوماتي كبير لقلعها من جذورها، ونحن نعاني ضعف الفلاتر التي تمحص المدخلات إلى عقولنا الخصبة. تتعاظم مشكلة «طرف علم» عندما توظف بشكل سيئ ضد الخصوم، فيبنى عليها مجموعة من الأكاذيب والاختلاقات من أجل تشويه سمعة الخصم، وهذا انحطاط أخلاقي كبير، وانحدار في مسار المروءة والشهامة، وكما يقول المثل الروسي: (في مستنقع الأكاذيب لا تسبح سوى الأسماك الميتة)، وثقافة العداء التي تغيب عنها أخلاق الفروسية تجعل من المعادي مخرج أفلام سينمائيا يبث للناس ما يرسم في خياله.
في هذا الوقت تتضخم آثار مشكلة «طرف علم» لأن أي طفل صغير يستطيع أن يفتح دكاناً للكذب في سوق التواصل الاجتماعي، ويحتاج أن يشتري فقط «طرف علم» ليبيع إشاعات مليئة بالدجل والافتراء.
أحكامنا التي نصل إليها كثيراً ما تكون غير دقيقة لأننا نكتفي بالمتوفر من المعلومات، فالربط بين أي متقاربين أمامنا يعد كافياً للوصول للنتيجة، وهذه الطريقة تفقدنا كثيراً من الأحكام الصحيحة على الأشياء والأحداث والأشخاص.
أعجبني مثل يتداوله الماليزيون في تراثهم ويقول: (الكذب كالرمل: يبدو ناعماً عندما نتمدد عليه، وثقيلاً عندما نحمله)، وما أروع المنهج الشرعي الذي نجده في سورة الحجرات في تلقي الأخبار: (ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).