عدد ليس بالقليل من الشخصيات التي أجريت معها لقاءات تلفزيونية تعرضوا في فترات سابقة من حياتهم للاعتقال والإيقاف، والذي رصدته أن أغلب هذه الشخصيات كان «السجن» نقطة تحول هامة في حياتهم، فالرجل الذي دخل ليس هو الرجل الذي خرج، وإن كان بعضهم لا يحرص في أول أيام الخروج من المعتقل على إبداء هذا التحول للرأي العام لأنها من خوارم البطولة.
هذا التغير ليس حكراً فقط على الأفراد بل يمتد كذلك للجماعات، وكتب المراجعات الفكرية للجماعات الإسلامية وغيرها التي كتبت في السجون العربية تشهد على مخاض الولادة التحولية، وهذا الوليد يختلف حجمه وشكله من زنزانة لأخرى.في حياتنا يوجد جهاز كبير يعمل طوال الوقت اسمه جهاز «التبرير»، وفي الخلف يوجد جهاز صغير يعمل عند الطلب فقط اسمه جهاز «المراجعة»لست هنا أثني أو أذم النتائج الجديدة للتغيير، ولكني أحاول استيقافكم على رصيف «المراجعة»، فهذه المراجعات لم تكن لتأتي في زحمة لهاثهم المزدحم قبل السجن، فتجربة الاعتقال وفرت عدة عوامل جعلت بيئة التأمل والتفكير جاهزة لمشروع المراجعات، فالابتعاد عن المشهد المعتاد، والخروج عن برمجة النظام المحيط تساعدك على البداية التأملية والوقفة المحاسبية لمشاريعك في هذه الحياة القصيرة.
هنا أنا لا أقدم دعوة عامة لدخول السجن حتى تقف مع نفسك، ولكني أحاول الوصول إلى أن هذه المراجعات لم تكن لتأتي دون انسحاب مؤقت عن المشهد اليومي، فالإنسان يتحول مع الوقت لترس صغير في ماكينة كبيرة يكرر فيها حركات الدوران دون تفكير بشكل المنتج وجودته.
أحد الأصدقاء حدثت تحولات مهمة في نظرته للحياة بعد عملية جراحية أجراها مؤخراً، فقد كانت تجربة السرير الأبيض تحويلة اضطرارية لاتجاه حياته الطولي، وبدأ يؤمن بأشياء لم يكن يعتقدها في السابق، وترك قناعات لم أكن أتوقع أن يشكك فيها في يوم ما.
لا يجب أن يحدث لنا مكروه حتى نتوقف للمراجعة والمحاسبة، فالتوقف الاختياري عن المؤثرات الطبيعية، وإعادة الأسئلة نحو الإجابات التي حسمناها سابقاً هي ظاهرة صحية نحتاجها بصفة دورية كي نعيش بشكل أفضل.
في حياتنا يوجد جهاز كبير يعمل طوال الوقت اسمه جهاز «التبرير»، وفي الخلف يوجد جهاز صغير يعمل عند الطلب فقط اسمه جهاز «المراجعة»، وحياتنا لا تتقدم بشكل نوعي بدون استخدام جهاز «المراجعة» بشكل دوري، والاعتماد على جهاز «التبرير» سيقلل من فرص التقدم.
توقف والتقط أنفاسك، ثم فكر وتأمل وأعد حساباتك، فهناك أشياء عليك تركها وأخرى يجب فعلها، وهناك زيادة يجب أن تتم وأخرى يجب أن تقل، وكلها تتحدد عندما تعرف الاتجاه الصحيح لك، وهل الوسيلة التي تقلك صالحة لحملك في هذا الاتجاه، وما الوقود الذي تحتاجه في هذه الرحلة.