يشهد كثير من أهالي قريتنا بأن ربيع هذا العام لم يحدث منذ أكثر من خمسين عامًا، فالمياه مثلًا خرجت من تحت الأرض على شكل عيون ونجول، كما كانت سابقًا، وبالتالي ارتفع منسوب المياه، وظهرت أعشاب ونباتات في الطرقات، وعلى الجدران لم يروها منذ زمن طويل؛ مما يبشّر بقدوم صيف ربيعي نادر يريح كثيرًا من قرى منطقة الباحة ويُنعشها، وكم كانت تلك الذكريات، وتلك النِّعَم تحيي هاجس كل سكان قريتي، وتشحذ هِممهم كبشائر لسنوات سمان، وهم يتربّعون بين قممها الشامخة ومزارعها العامرة، سعداء بين طرقاتها الضيقة وبيوتاتها المتلاصقة.
ورغدان هي قريتنا الجميلة الرابضة فوق قمم جبال السروات، ولها من اسمها نصيب، فاسمها من أجمل الأسماء، وموقعها من أجمل المواقع، يعرفها القاصي والداني بغابتها الشهيرة، كما كان يعرفها كل أهالي المنطقة بسوقها الكبير كل يوم أحد!
ومن المعلوم أن علاقة الإنسان ببيئته علاقة فطرية ارتبطت به منذ الصغر، وإن كانت اليوم قد فقدت بعضًا من تلك الملامح التي ابتلعتها التنمية، وغيّبها التحضر فاختفى الكثير مما كنا نراه جميلًا لذكريات ما زالت عالقة في الذهن بين طرقاتها وجلسات صُفيانها، ومدرجات ملاعبها الترابية، وساحاتها وناسها وأهلها.
لقد عشنا طفولتنا بين حقولها وعشنا صبانا بين مزارعها، ولذلك فلا غرابة إذا جعلناها من أجمل أيام العمر التي عاشها جيلنا، حيث كان الناس كلهم سواسية، يجمعهم الحب والوفاء، وتربطهم الشيمة والحياء، فالكل فيها يعرف الكل، والبعض يُكمل البعض في السراء وفي الضراء.
وبطبيعة الحال فإن جيلنا فقد الكثير من ذكريات قريتنا، فقد مثلا ترانيم الرعاة وحماة المزارع، وفرقعات المرجمة، وألحان التهليل والتكبير، كل صباح، وفقدنا رائحة خبز الملة والفانوس واللمبة، والدلو والقربة، واختفت معالم قرون المراغة، ومساريب الحمراء، واندفنت معظم آبار قريتنا، واندثرت معالم القردود والحبناء، وحراية ووادي عبل واختفى الذين كانوا يتفرّكون ويتشكّدون والذين كانوا يصْرمون ويذرّون وتوارى معهم عزف يا رب يا كريم، وهتاف يا خوخ يا فدري، ورأينا أناسًا من الطيبين، وقد قضوا نحبهم «رحمهم الله»، وهم من الذين عمّروا شرايين منازلنا برائحة الحب الذي كانت تفوح به كل الطرقات والساحات.
إن الحياة في قريتنا بالنسبة لنا لها طعم آخر؛ لما لها من راحة وسلام يوم كنا مع الآباء متقاربين، ومع الجيران متلاصقين، نزرع ونحصد ونربي الحيوانات الأليفة، كما نربّي الحمام والدجاج، فنأكل من خيراتها وننعَم بمنافعها وتتحفنا بأصواتها.
وأخيرًا.. فلقد علّمتنا قريتنا مبادئ الحياة الأولى، فلا تلومونا إن قلنا إنها كانت في أعيننا أحسن جمالًا، وأكثر بساطة وأقل تعقيدًا!!