- غبت سنوات عن السفر برا إلى منطقة الباحة. لم يتوقف سفري لكن استمر بواسطة الطيران من الدمام مباشرة. زيارات متكررة لموطن مولدي وطفولتي، وبوابة خروجي إلى ساحات ومعارك هذه الدنيا. كانت سفرتي الأولى على سطح سيارة لوري برفقة آخرين. استغرقت السفرة يوما كاملا من بلجرشي إلى الطائف، مسافة لا تزيد على (250) كيلومترا. كنت مرافقا لأبي (رحمه الله). كان يحدثني عن سفره مشيا على الأقدام لنفس المسافة. كان يسعى لتخفيف قسوة تجربة السفر على طفله، لم أبلغ سن السادسة بعد.
- كانت تلك السفرة الأولى في حياتي. كانت عبورا عظيما نحو المستقبل. حيث حملني الوالد لأدرس الابتدائي في المنطقة الشرقية عام (1961م)، لعدم وجود مدرسة في قريتي في ذلك الوقت. كان السفر عبر طريق ترابي صخري متعرج عبر الجبال. ما زلت أذكر محطات الاستراحات الشهيرة لخدمة المسافرين (القهاوي). معالمها وبقايا ذكرياتها عالقة في أذهان جيلي. في تلك الرحلة ركبت أول طائرة (داكوتا) من جدة إلى الظهران. ليجنبني أبي صعوبة ومعاناة ومتاهات الطريق البري بين الرياض والطائف في ذلك الوقت. الآباء العظماء يستثمرون في أبنائهم لتحقيق مستقبل أفضل.
- بعد ثلاث سنوات من تلك السفرة، عام (1963)، بدأ العمل في إنجاز الطريق الأسفلتي الذي امتد كالداب الأسود بين الجبال من الطائف إلى الباحة، ومنها إلى أبها وجيزان، بطول (753) كم. افتتحه الأمير فهد بن عبدالعزيز آل سعود عام (1968). في حينه تمت تسميته (طريق الخير)، كان اسما على مسمى. أعيدوا هذا الاسم وحافظوا عليه وعظموه، فقد أحدث نقلة حضارية لم تشهدها المنطقة الجنوبية الغربية عبر تاريخها. كان هذا الخط بمثابة حبل إنقاذ لأهل المنطقة من الانغلاق والتخلف، وعناء السفر إلى بقية مناطق المملكة عبر الطائف، حيث أصبحت نقطة التقاء عظيمة بين مناطق المملكة المتعددة والواسعة المساحة.
- ما زلت أذكر القرى التاريخية على جنبات هذا الطريق تعتلي قمم الجبال، بمعالم بيوتها الحجرية، ومزارعها المعلقة على سفوح الجبال وبطون أوديتها. طريق الخير هذا يخترق المنطقة المطيرة من الطائف مرورا بالباحة وحتى أبها. شريط لا يتجاوز عرضه (10) كيلو مترات لكنه يحمل جميع المستوطنات البشرية عبر تاريخ المنطقة الجنوبية الغربية. تم تصميم الخط ليخدم أكبر عدد من القرى التاريخية المنتشرة على جانبيه. أصبح هذا الطريق (النهر الجاف) الذي ينقل الخير إلى قرى المنطقة وأهلها حتى اليوم، وقد أصبح مزدوجا بأعلى المواصفات العالمية.
- درست في الجامعة أن (الريف) موطن ومصدر الأيدي العاملة، وذلك بما يتميز به من كثافة بشرية. حيث يمد القطاعات الأخرى بكل احتياجاتها من الموارد البشرية. فكانت مناطق الجنوب الغربي من المملكة بمثابة الخزان البشري الذي انفجر مع بداية الطفرة عام (1975). فأغرق خيرا وبركة بقية المناطق بالمنفعة والعطاء. بهذا أصبحت المملكة نموذجا تتحدث عنه الأبحاث العلمية، في قدرتها على استيعاب هذه الهجرة الجماعية، وترشيدها، وتوظيفها في جميع القطاعات. فأصبح أبناء الريف معاول بناء لتغيير تاريخ شبه الجزيرة العربية نحو الأفضل والأحسن. وقد نجحوا.
- أصبح أبناء المناطق الريفية علماء، وأطباء، ومهندسين، وفنيين مهرة، ومعلمين، ورجال أعمال، وقادة عسكريين، وجنودا بمختلف الرتب. الفضل يعود إلى دولتنا، تبنت تعليمنا وتدريبنا في جميع أنحاء العالم، لنعود لتأدية أدوار البناء والتعمير والإدارة.
- من يصدق أن عدد الطلاب السعوديين المبتعثين فاق (120) ألف مبتعث في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها في يوم من الأيام، دولة عظيمة ثائرة بطموحاتها ومشاريع تنميتها، علمت وصرفت ومنحت المكافآت لنا ولزوجاتنا ولأبنائنا، كنت أحدهم بفضل الله. ما زال العطاء مستمرا تنمية واستثمارا للعقل السعودي، والرهان عليه بالتعليم.. تعظيم سلام لبلدنا وقيادتنا وأمتي السعودية.
@DrAlghamdiMH