كتبتُ من قبل حول زيارة هيرمان بورخارت للأحساء سنة 1904، ولعل أبرزها من مشاهد ما ذكره في مسودَّاته والمحاضرة عن زيارته، التي جاءت فيها معلومات قيِّمة تُشعرك وكأنك عُدت لتلك الفترة، وعبر بوابة زمن.
وبالعودة للتذكير، كان بورخارت رحالة هاويًا فن التصوير في زمن لم يُعرف فيه عن تلك الآلة بالشرق الأوسط إلا القليل، وأثناء السيطرة العثمانية للمنطقة.
في رحلته زار بورخارت عددًا من مدن الخليج، والتي كان من ضمنها العقير والهفوف، صوَّر فيها أقدم صورها. ودعوني هنا أستوقف لأسرد مقتطفات مما جاء في مذكراته، ولعلنا نعيش بعض مشاهد ما كان، بالإضافة إلى الصور.
مما كتب بعد مغادرته الكويت واصفًا الحياة في اليوم الشراعي ومشاهدته للقطيف من رأس تنورة «تسير الحياة على سطح المركب تقريبًا على النحو التالي: عند تباشير الفجر ينطلق صوت الريس بالأذان للصلاة «الله أكبر.. حي على الصلاة.. الصلاة خير من النوم»، فيقوم الجميع بأداء فروض وضوئهم وصلاتهم. ويتكرر الوضوء والصلاة خمس مرات يوميًّا، وإذا كان الجو جيدًا والرياح مواتية، ينقضي بقية النهار بشرب القهوة، وإصلاح القماش والأشرعة. أما إذا كان الجو عاصفًا فإن الوقت يستغرق بأجمعه في تنزيل ولف الأشرعة ونضح ماء البحر إلى الخارج.
تبدو حياة البحارة مرهقة جدًّا، فإن الحر خلال فترة النهار، بالتناوب مع البرد الذي يكون في الأغلب قارسًا خلال الليل، والشمس في النهار مشتدة، يؤدي إلى علل جسدية تصيب البحارة، كالخلل في الأسنان، وبالدرجة الأولى تنتشر أمراض العيون، وكان معنا بحار ضرير في كلا المركبين اللذين استقللتهما.
بعد اجتياز رأس تناجيب وجزيرة أبو علي في يوم 18 ديسمبر (1903) وصلنا إلى رأس تنورة، وفي الأفق يستطيع المرء أن يرى القطيف، بمزارع نخيلها الفسيحة، وجبل القرين. ثم في يوم 19 ديسمبر (1903) رسونا أمام البحرين».
وصل هيرمان بورقارت البحرين، حيث جلس فيها عدة أيام ومنها الى العقير، وجاء في ملاحظاته أنه «في يوم 27 ديسمبر 1903، غادرنا البحرين، لكننا لم نصل إلا في 30 من الشهر إلى رأس الخور الذي به العقير في عُمق أقصاه، فلقد رُحنا نجتهد ساعات طوالًا في وجه الرياح المعاكسة لمجرد محاولة دخول الخور، ولزمنا ساعات إضافية ونحن نسلك باستمرار اتجاهات متعرجة، حتى وصلنا محطة العقير الجمركية».
وعن العقير، ذكر «هنا في العقير، كانت السلطات عارفة بزيارتي قبل وقت طويل، ذلك أن الأوروبيين لا يسمح لهم بالسفر إلى الداخل دون موافقة الحكومة، العقير محطة جمركية منعزلة تحيط بها القفار، وسكانها الوحيدون يتألفون من بعض الموظفين، ومن أفراد الحامية العسكرية، ويتألف مكتب الجمرك من باحة كبيرة طويلة ومستطيلة. وبما أنه لم تكن توجد في العقير مطايا للركوب أو التحميل، فقد توجَّب عليّ انتظار قدوم قافلة من الهفوف. وتعيَّن علي أن أصبر خمسة أيام. وأخيرًا، في 4 يناير (1904) جاءت قافلة تضم حوالي 200 جمل، في خفارة 20 عقيليًّا مسلحًا. قمت بتأجير حمارين بريالين، واحد لي وآخر لخادمي، و4 جمال بقيمة 5 ريالات للواحد لأجل تحميل المتاع، وهو سعر مرتفع نسبيًّا».
وعن مسيرة الهفوف، ذكر بورخارت «في عصر يوم 4 يناير (1904) رحلنا أخيرًا، وكان العقيلات في مقدمة الركب يحملون رايتهم المطرزة بآيات قرآنية. وبعد قرابة 4 ساعات من المسير خلال الرمل العميق، توقفنا لمبيت الليل. كانت النباتات الموجودة في موقع مخيمنا تتألف من النخيل القزمي، ومن شجيرات «حليب العشر» التي تسيل من أوراقها الغليظة عصارة بيضاء عندما تقشط. كما أن أغصانها تؤمن حطبًا جيدًا للإشعال، وهو ما كان أمرًا مفيدًا؛ إذ إن الليل كان باردًا كالجليد. وللعثور على الماء يكفي الحفر لعمق نصف متر.
في اللغة العربية تسمى الأرض الحسا عندما يكون الماء متوافرًا بالقرب من سطح التربة فيها. في اليوم وبعد مسيرة تسع ساعات، خيَّمنا قبالة أبواب قرية صغيرة تحيط بها رياض نخيل. ثم قادنا الطريق بعد بضع ساعات أخرى إلى بساتين نخيل غنَّاء، ومياه جارية في كل حدب وصوب، إلى أن وصلنا إلى الهفوف».
وهنا أقف لأكمل لاحقًا مقتطفات مما سُرد عن رحلته للهفوف.
@SaudAlgosaibi