لن نستطيع كسر قضبان السجن ما لم ندرك أولًا أننا نُقبع بداخله ثم نضع الحرية نصب أعيننا، ونجعلها حاضرة في أذهاننا ودواخلنا، التحرر من السلوكيات القهرية التي تصوغ العادات وتشكّل منطقة الراحة للإنسان، وإضفاء المرونة على الطباع هو طريقنا لفهم دوافع السلوك، وإعادة ترسيم خرائط الفعل، والخروج من منطقة الراحة، فهي فعليًّا عكس ذلك، هي منطقة الجمود والركود، وإعاقة الذات، وتعطيل قدراتها، وعندما نخرج منها سنكون أقل برمجة وأكثر حرية.
يظن كثير من الناس أنهم يتحكمون بسلوكياتهم وعاداتهم، لكنهم لا يدركون أن كثيرًا منا يعيش عبدًا لطباع أنشأتها سنواتنا الأولى في الحياة، أو لسلوك قهري ناشئ عنها، فمن الخطأ أن نظن أن الناس يقومون بسلوك معيّن بطريقة معينة لمرة واحدة لا أكثر، بل الحقيقة أننا نكرر نفس السلوكيات مرارًا وتكرارًا، في عملية أشبه برمي أنفسنا في أثر عجلات تسحقنا.
قراراتنا وأفعالنا علامات صادقة تنبئنا بما سنفعله في المرات القادمة، وهي علامات لا يشوبها أي غموض أو إبهام، إنما هي نتيجة لاستجابة تلقائية تكرر نفسها، لكن تكرار نفس الأنماط السلوكية يجعل الحياة ضيقة مملة.
سلوكياتنا يحددها الطبع أو السجية، فالطبع شيء متأصل فينا عميقًا ومطبوعًا في دواخلنا، يُجبرنا على التصرف بطريقة معينة دون وعي أو تحكّم منا، يتكوّن الطبع بفعل ثلاث طبقات أساسية تصطف فوق بعضها.
أعمق الطبقات هي صفاتنا الوراثية، الطريقة التي ركّبت بها أدمغتنا، والتي تجعلنا ميَّالين لخيارات أو مزاجات معينة دون أخرى، فقد تميل مثلًا للبهجة أو الاكتئاب، تحب الوحدة أو العشرة، القلق أو الانفتاح..
الطبقة الثانية هي ما اكتسبناه في الطفولة المبكرة، وأنماط التعلق بالأمهات، ومقدمي الرعاية، في هذه المرحلة العمرية نشعر بالعواطف بشكل مكثف، وتترك آثارًا عميقة في أدمغتنا الناشئة، فقد تكون داعمة للسواء وسلامة الطبع، أو تتسبب في فوضى داخلية ومشكلات عاطفية خطيرة، هاتان الطبقتان عميقتان ويتضخم تأثيرهما؛ لأننا في الغالب ليس لدينا إدراك واعٍ وحقيقي بهما أو بالسلوك الذي تفرضانه علينا، إلا بعد بلوغ درجات في سلم الوعي، وبذل جهد عظيم في تفحّص أنفسنا.
الطبقة الثالثة تتشكّل بفعل تجارب الحياة على مر سنوات عمرنا، تدفعنا بدورها إلى الركون إلى أساليب معينة في مواجهة أحداث الحياة، ولعل مرحلة بعينها تكون أوضح تأثيرًا كتجارب الطفولة المتأخرة والمراهقة، حيث يصبح الشخص مدركًا لنقائص طبعه، ويعرف بشكل أكثر دقة السجايا المقبولة اجتماعيًّا، ويعمل على إخفاء المرفوضة منها.
دورك الآن أن تدرك طبعك وتتفحص بدقة عناصر ماضيك التي سببت تشكّله، وتبذل الجهد الواعي للاحتفاظ بسلامة الطبع التي تنبثق من الشعور بالأمان الشخصي والقيمة الذاتية، ولما كانت طباعنا خليطًا من الصفات السليمة والسقيمة، فعلينا العمل على تعزيز نقاط القوة في طباعنا حتى لا يصيبها الذبول والوهن، وإدارتها حتى لا تتحوّل إلى نقاط ضعف (مثلًا الثقة بالنفس إذا لم يتم ضبطها بالوعي الذاتي وضبط النفس ستتحول إلى هوس بالعظمة).
إدراكك لطبعك سيمكنك من التخفيف من الأنماط السلبية، وخلق عادات جديدة تقرنها بالممارسة، فتصوغ طبعك بسمات جديدة، تكسر بها دائرة السلوك القهري، وتغيّر هذه الخوارزميات العتيقة لتعبّر عن نفسك بطريقة واعية، وتنظر للحياة من واجهة أكثر اتساعًا وربما أكثر عمقًا.
@ wallaabdallaga