هناك أسئلة كثيرة تردني من القراء حول نشأة الجودة والتميز وأصلهما، وكيف بدآ؛ كون هذا العمود تطرَّق لكثير من المقالات التي تشرح وتفصل في آليات تطبيق الجودة في جميع مجالات العمل والتشغيل؛ لما لهما من أهمية واحدة ومحور أساس تقوم عليه الرؤية المباركة ٢٠٣٠، فمن الإنصاف أن نتتبع كيف نشأ مفهوم الجودة في ظل تعاليم ديننا الحنيف، ولو تتبعنا لوجدنا أن التربية الإسلامية قائمة في أصولها على قواعد ثابتة مستمدة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية، والتي تعتبر الزاد الأول الذي استقت منه كل العلوم والمعارف، شأنها في ذلك شأن كافة المعاملات أيضًا.
إن هذا المنهج قد زخر بهذه المفاهيم التي تمثل في ذاتها مكوّنات ثقافة الجودة في التعليم والحياة، كما أنها دوافع للعمل التربوي على مستوى التنظير والتطبيق معًا، وهذا يدعونا للتعرف على تلك المفاهيم والمقومات التي تستند عليها الجودة.
فمن مفاهيم الجودة مفهوم «الإحسان» الذي يتطلب من الفرد الإحسان في كل عمل وقول يقوم به، والإتيان به على أكمل وجه ممكن، يقول الله "عز وجل": (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وقال تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)، أي أن الإحسان في مجال الجودة يعني الوفاء بمتطلبات العمل على أحسن وجه، كما يقتضي الإحسان من الفرد أن يجوِّد عمله، ويعلم أن الله مطلع عليه فيجزيه على حسب عمله.
وأيضًا مفهوم «الإصلاح»، وهو نقيض الإفساد، حيث يعني إزالة الفساد والقضاء عليه، كما يمثل العمل الصالح ثمرة الإيمان الحقيقي، قال تعالى: (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، والفرد المؤمن لا يريد إلا الإصلاح في الأمور كلها ما استطاع، قال تعالى: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). ويمثل الإصلاح في معناه العام أهم مرحلة من مراحل نشر ثقافة الجودة التي تتمثل في إزالة كل ما هو غير مرغوب فيه من العادات والمفاهيم عند البدء بتطبيق نظم الجودة، وبالتالي تهيئة البيئة الملائمة للعمل.
وكذلك مفهوم «الشورى»، وهو اجتماع الأفراد على الأمر ليستشير كل واحد منهم الآخر، حيث يستخرج من هذا التشاور أجود الآراء وأفضلها، والشورى سمة من سمات الفرد والجماعة ابتداء من الأمور الجزئية حتى الأمور المتعلقة بنظام الإدارة والحكم، قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، وقال تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله).
ومن الملاحظ أن الشورى من أهم مبادئ تحقيق الجودة، حيث يمكن من خلالها استخراج الرأي الصواب من أهل الخبرة والحكمة، كما أنها تدعم العمل الجماعي، وتساعد على ترابط الأعضاء وتعاونهم، بالإضافة إلى الشعور بالمسؤولية وتحقيق الذات؛ مما يؤدي إلى جودة العمل وإتقانه.
ومفهوم «التعاون»، والذي من خلاله يمكن أن تتم الكثير من الأعمال النافعة للفرد والمجتمع، كما أنه يجعل الأداء أكثر جودة وأكثر فاعلية، ولكن من المهم أن يتم التعاون في أمور الخير التي تحقق النفع والصلاح، قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ومن مقوّمات ثقافة الجودة التوقيت، حيث إنها من المقوّمات في أداء العمل العناية بترتيبها الزمني حسب أولوياتها، بل وتحديد جدول زمني يتوافق مع الإمكانيات والظروف المتاحة.
والتنافس، وليس المقصود هنا سوى التنافس في تجويد العمل وإتقانه وإتمامه مع حسن الخلق، حيث يجعل المشاركين جميعهم يخرجون أفضل ما لديهم من تفكير وطاقة تسهم في زيادة جودة العمل، كما أن التنافس هنا هو ما كان يبتغي به العبد رضا ربه أولًا في كل أعمال الخير، ثم رضا الجماعة، قال تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
والمراقبة، حيث لا شك في أن مراقبة الإنسان لعمله ومتابعته له من أفضل العوامل التي تؤدي إلى جودة العمل والوصول به إلى حد الكمال، فإذا كانت رقابة البشر على البشر – الرقابة الخارجية - تعطي نتائج ملموسة في تحسين وتجويد العمل، فإن استشعار الفرد لرقابة الله "عز وجل" يحقق نتائج أفضل بكثير أو كما قال تعالى: (إن الله كان عليكم رقيبا).
والفاعلية تعني القدرة على إنجاح العمل لا مجرد أدائه، كما أن الفاعلية تحقق إيفاء العمل وتمامه، وبالتالي تمثل أهم معايير الجودة.
وخلاصة القول إن مفاهيم ومقومات الجودة التي اتفق عليها المهتمون بالجودة الشاملة في الإدارة وما شملها من أبحاث كثيرة في عصرنا الحديث هي مفاهيم ومقومات إسلامية في الأساس، وبذلك يتضح أن الجودة لها أصل في الإسلام، من حيث المعاني والدلالات والمقوّمات التي تقوم عليها معايير الجودة، ومما يوجب الرجوع إلى تلك المقومات للربط بين الواقع والمنهج حتى يتحقق النجاح المُرضي لله وللمجتمع، ولن يتحقق ذلك النجاح إلا بالعمل، فهو المقياس العادل والمحور الأساسي لوجود الإنسان، ويتسع العمل لكل مناشط الحياة التي تتطلب الإنجاز المستمر والتغيير وفقًا لمجريات كل عصر.
@Ahmedkuwaiti