في علم الأوبئة يعتبر المجتمع هو المريض الذي تطبق عليه الدراسات الاستباقية والتجارب والتحاليل للوقاية أو العلاج، وقد يطلق مصطلح المجتمع الوبائي على مجتمع ما عندما يكون خاضعاً لتلك الدراسات الساعية لإيجاد سبل استدامة الصحة والاستفادة من بيانات ومخرجات الحالات المرضية لأفراد ذلك المجتمع، بهدف السيطرة على الأمراض والأوبئة. وعلى خلاف ما قد يوحي به لفظ المجتمعات الوبائية، فإن هذه المجتمعات هي عادةً الأكثر تقدماً في المجالات العلمية وفي السلوك الاجتماعي كذلك، كما تمتاز في الغالب باقتصادات متعافية.
في 2020 عندما ضرب فايروس كورونا المستجد أطناب المعمورة، هزَّ اقتصاداتها ونخلَ علومَها كافةً الصحية منها والاقتصادية والاجتماعية وحتى الإدارية، فغاص الباحثون كلٌ في بحرهِ لفهم ودراسة هذا الواقع الاستثنائي والفريد واستخلاص الفوائد وإيجاد المنافذ أملاً في الخروج منه بأكبر حصيلة علمية ومعرفية، وأيضاً لتقديم الرؤى والبصيرة لصناع القرار بهدف تلافي أكبر قدر من تبعات وأضرار هذه الجائحة التي لم يسلم منها جانب من جوانب حياة الإنسان إلا وتسببت في اضطرابه بقدر مؤثر لن تعود الحياة من بعده لما كانت عليه، فقد ترك (كوفيد-19) وسْمَهُ على جبين العالم الحديث إلى الأبد.
تُصنف الأوبئة ضمن الأزمات، ويضع الإداريُّون عادة للأزمات اعتبارات واضحة ومحددة عند ممارسة التخطيط الإستراتيجي، وتتفاوت نسبة أهميتها بحسب تقدير وفهم المخطِّط الإستراتيجي للتحديات الراهنة والمستقبلية، وغالباً ما يستعين الإداريُّون بأبحاث الإدارة الإستراتيجية التي تتميز بتنوع أطرها، فمن الأبحاث الإستراتيجية ما تكون في الإطار العام، ومنها ما تختص بجوانب أكثر تحديداً كأبحاث سوق العمل أو التقنية أو سلوك العنصر البشري وغير ذلك. وهذا الأخير وأعني سلوك العنصر البشري، تأثر بجائحة كورونا بالقدر الأكبر وجاءته الضربة أكثر تركيزاً وجلاءً بقرارات الإغلاق والإلزام بالعمل عن بعد، وانخفاض حجم الأعمال وبالتالي تقليص أعداد العاملين وزيادة البطالة، كل تلك الاضطرابات لم يكن ليتوقعها أكثر الباحثين الإستراتيجيين تشاؤماً، ولكن مخرجاتها باتت مادةً ثريةً لأبحاث الإدارة الإستراتيجية، كتلك الأبحاث المتعلقة بعلم الاقتصاد السلوكي الذي يخدم اتخاذ القرار الاقتصادي من خلال التحليل الإستراتيجي المعتمِد على دراسات علم النفس ورؤاه.
ومع الاضطراب الذي تسببت به جائحة كورونا، انكشف ضعف التفكير الإستراتيجي السلوكي الحالي، لا سيما في اعتماده على المنهجيات النمطية لبناء القرار الإستراتيجي والتي تعتمد على التحليل بالمقارنة المباشرة، وتتأثر بالطبيعة الاجتماعية (السياسية والمؤسسية) العميقة لبناء الإستراتيجيات، وأيضاً حيال التعامل مع حالة عدم اليقين الأساسية. ومن هنا برزت الأهمية الكبيرة لأبحاث الإدارة الإستراتيجية، ومن أهمها الإستراتيجيات السلوكية. فما الذي يمكن أن تفعله أبحاث الإدارة الإستراتيجية للمساعدة في فهم الواقع الجديد لفايروس كورونا المستجد؟ وما الآثار المترتبة عن هذا الاضطراب على إدارة الإستراتيجيات السلوكية؟.
تحتل الإستراتيجيات السلوكية موقعاً فريداً بين أبحاث الإدارة الإستراتيجية نظراً لما توفره من رؤى تفسيرية قائمة على أساس نفسي، تمكّن لعملية صنع القرار في الظروف الاستثنائية والأشد صعوبة. وأيضاً لكونها تتناول جوانب حساسة من الإدارة الإستراتيجية مثل: الرئيس التنفيذي وسلوكيات فريق الإدارة العليا، والتعامل التنافسي، وعدم التجانس المؤسسي، ونحوها، كما أنها تقدم رؤىً موجَّهة للإستراتيجيات الأعلى انطلاقاً من سلوكيات الأفراد، مع التزامها بإسناد الفرضيات حول هذه السلوكيات إلى الأدلة وليس إلى التقدير الشخصي.
وفي السنوات الأخيرة ظهر مفهوم (صناعة الحواس – Sensemaking) ليصبح واحداً من أدوات إدارة الإستراتيجية السلوكية، وقد كثر التعاطي حوله خلال جائحة كورونا، وصناعة الحواس تعنى أن تمنح معنىً محدداً لمجموعة من الخبرات الجماعية، بهدف الإحساس بها والتعامل معها بمادية. وقد استخدم هذا المفهوم في بناء إستراتيجيات سلوكية في ظل ظروف كورونا المستجد، وتشير الأبحاث إلى أن اتخاذ القرار الإستراتيجي في ظل هذه الظروف يجب أن يتبع نهجًا متماسكًا ومتكررًا، بحيث يبرهن صانعو القرار بأنهم يفهمون الموقف بدقة. ولقد تمثل ذلك في إدارة تايوان لآثار الجائحة حيث كانت تايوان قادرة على التحرك بسرعة ونجاح بسبب قراءة صانعي القرار التايوانيين للإشارات المبكرة بشكل صحيح استناداً على تجربتهم السابقة مع فيروس (سارس).
ينظر إلى الإدارة الإستراتيجية السلوكية بكونها نهجاً مهماً لصنع القرار الإستراتيجي، وهي تفترض أن من غير المحتمل أن يكون جميع صناع القرار جيدين دائماً في التعامل مع النماذج والبيانات والتوقعات ونحوها، ذلك أن معظم صانعي القرار ليسوا إحصائيين بطبيعتهم، كما قد يعتمد صانعو القرار بشكل مفرط على تلك النماذج والبيانات والتنبؤات المعدة بشكل روتيني، مما سيمثل خطراً خاصةً عندما تكون التحديات التي يواجهها صانع القرار استثنائية وغير معتادة كما هي تحديات جائحة كورونا.