القضايا والأزمات التي تواردت تباعا في عالمنا العربي انطلاقا من عمليات الثراء الفاحش السريعة لبعض الأفراد، وقضايا غسيل الأموال «المبهمة» التي أعلنت في دولة الكويت، وانتهاء بانفجار مرفأ لبنان الأخير، وما بين كل تلك القضايا الأكثر شهرة هناك قضايا محلية تنتج عنها الكثير من الجرائم الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وقضايا مثل هروب عدد من رجال الأعمال العرب إلى الخارج حاملين معهم أموالا طائلة، ووجود المشاريع التمويهية والبنوك الفرعية الأجنبية على أراضينا، ونقل مشاركة الصالح العام بالصالح الخاص ودخول عدد كبير من المستثمرين الذين لديهم مناصب عالية في مشاريع مكلفة لاقتصادات الدولة أكثر من كونها مفيدة.
تسلط أصحاب الوظائف السيادية، والكثير من الأنشطة الأخرى كل هذه المعاملات هي بالفعل تدخل تحت مصطلح «الفساد».
في ظاهر الأمر تعد القضايا الشهيرة أسبابا لاختلال الأمن وتؤدي إلى تدمير أو تلويث سمعة البلد الذي يطالها، ولكن في الحقيقة هذه القضايا المتشابكة والمتداخلة يجمعها سبب رئيسي هو نواة حقيقية لتكوينها وتبلورها ومن ثم انفجارها لتكون قضية وجريمة، هو الفساد الأخلاقي والمالي والإداري.
تعد الأزمات اختبارا حقيقيا للدولة بمكوناتها ابتداء من سدة الحكم وجهاته التشريعية والتنفيذية، وانتهاء بالمواطنين، يتم فيها اختبار التشريعات والممارسات وضمير الأفراد الوطني ومن ثم الأفكار المنتجة وكيفية تعاملها لمعالجة الأمر، فلا يمكن الخروج من عنق زجاجة، مع أفراد وجهات لا يحملون ضميرا وطنيا ويستغلون الكارثة للفوز بمغانم الحرب التي تقودها جهود الدولة.
عقب كل أزمة تتم إعادة جدولة كل شيء وأهم ما تتم إعادة هيكلته وجدولته هي المؤسسات التي كانت ثغراتها سببا في المشكلة، وفي الغالب يتم تبديل الفرق والخطط وهذا كفيل بإعادة الإنتاج بشكل صحيح.
في دولنا العربية نحن دول «كلاسيكية» وفقا للنظريات الدولية، والمشكلة أن المعارضة العربية هي الأخرى معارضة «طوباوية»، في الظاهر هاتان النظريتان وفق مفهومهما الدولي والتاريخي، هما من أسمى النظريات التي كان يطالب بإرساء أسسها وفق مزايا المدينة الفاضلة وقتها. ولكن الحقيقة أن النظرية الكلاسيكية التي تعتمد على المحاباة والودية في التعاملات أنها مفسدة عظيمة للأخلاقيات الوطنية، وأن الطوباوية والمنادين بها «من المعارضة العربية» وهي نظرية «المثالية والليبرالية» هم في أساسهم فاقدون للمثل العليا وبالتالي فاقد الشيء لا يعطيه، وقد أثبتوا بعد الربيع العربي أنهم أسوأ من الكلاسيكيين بمراحل كبيرة.
أجل الاعتقاد بالمبدأ يختلف عن مزاولته، حتى تشريع القانون يختلف بين كونه نظرية مقدسة وكونه بندا تنفيذيا لقالب لا يتأقلم في مقاييسه مع المجتمع المتمثل به.
وعليه فإن رزمة الإصلاحات التي أعلنت عنها بعض الدول لا يمكن أن تنجح إذا كانت هناك ثغرات يتم التغاضي عنها «وديا» أو «لمصالح شخصية» تعلو على مصلحة الوطن، فالكوارث والأزمة تسمى باسم الوطن فهي تعم، بينما الهروبات الشخصية للأثرياء تكون شخصية وفردية وتجرئ من لا يملك ذمة وطنية من الأفراد في ظل غياب قوانين الردع.
الانكشاف دائما يكون سببا تنطلق منه أداة التعليم الأولى، التصحيح والاعتراف بالأخطاء وتقدير المخاطرة، وجعل الشعب هو الضمير، وإعادة التصحيح في كل مرة، هي أدوات الإصلاح وقوائمه.
وأيضا، رصد المؤسسات التي تكون أساس المكاشفات بالذات المالية، وبالتالي السيطرة على تحري المعايير الحوكمية كالمصرف المركزي وتشريعاته والمؤسسات المالية بالذات الأجنبية، إعادة هيكلة القطاع العام بما يتماشى مع تكوين قطاع خاص حقيقي وتكريس الأمر لذلك، وفق المعايير التي تحارب الفساد المسلط على رقبة الدول واستبدال المحسوبيات والعلاقات الودية بالقوانين المرنة والذكية، الفكرة هي بناء قاعدة أولية لاقتصاد وطني حقيقي لا تتخدر فيه القوانين والمعاملات ولا يفلت من العقاب مخطئ.
@hana_maki00