وقد أوردت القصة في هذه الجريدة، وسنستخلص منها العِبَر، لعل أجيالنا الحالية تدرك مغزاها، وقيمة التحليل بصورة عامة في التاريخ المعني بتتبع الأفراد وطرق عيشهم وأهدافهم في الحياة.
سأبدأ من مبدأ مشاركة هذا الشاب في أعمال المزرعة مع والده منذ نعومة أظفاره (سيقول بعض الناس: هذا استغلال للأطفال وغير ذلك من المقولات؛ لكن القضية هنا وجودية بالدرجة الأولى). ثم يليه تلك الدرجة من المسؤولية، التي كان يحس بها ذلك الشاب عندما لاحظ أن دخل الأسرة لا يكفي لحياة كريمة؛ ففكر في أن يغترب إلى الكويت، كما كان يسمع من بعض الأفراد الذين سافروا إلى هناك، ليساعد أسرته بشيء من المال. فهل هناك أسمى من تلك القيم، التي يعرّض فيها مراهق نفسه لمخاطر جمّة وغير معروفة العواقب، ويطلب من خلال طموحه العالي حياة كريمة (كادت في الواقع تودي بحياته) له ولأسرته، وهو ما تحقق له في نهاية الأمر.
وأنتقل بعد ذلك إلى عرض العبرة لشبابنا المعاصر، الذين يظن بعضهم أن حياة الناس هنا كانت بهذه السهولة التي يرونها في شؤونهم اليومية. فقد عاش الأجداد شظفًا من العيش وحياة كان ينقصها كل شيء تقريبًا من الرخاء والأمن، بل وحتى موارد الحياة الرئيسة من غذاء وماء نظيف، قبل أن يتغيّر الأمر مع الاستقرار في دولتنا الحديثة.
كما أود أن أنبّه إلى أن الأجداد كانوا يهاجرون شمالًا وشرقًا بحثًا عن الرزق الذي تشحّ مصادره في ذلك الزمان؛ فليت الأجيال المعاصرة لا تنسى تلك المعاناة التي عاشوها، وليتهم كذلك يوقنون بأن الحياة لا تستمر على منوالٍ واحد. فالظروف متغيّرة باستمرار، ونمط الاستهلاك المعتاد لا يمكن أن يبقى كما هو في كل الأحوال.
وأخيرًا أهيب بالمؤرخين، ويوجد منهم مَن يهتم بالتاريخ الحديث، بأن يصل اهتمامهم إلى قضايا تاريخنا القريب (أحوال شبه الجزيرة العربية، وعيش الناس فيها خلال ثلاثة قرون ماضية)، وألا يكتفوا بالتحقيب الذي اعتدنا عليه في كتب التاريخ المدرسية من مرحلة جاهلية إلى إسلامية تتوزع إلى صدر الإسلام وأموية وعباسية وأندلسية (وكأن تاريخ الأمم لا يمكن الغوص في قضاياه إلا من خلال الممالك، ولا قيمة لتاريخ المجتمعات). كما أن أغلب مؤرخينا لا يلتفت إلى القضايا النقدية، ولا إلى تحليل المعطيات، بقدر ما يرغب في سرد القصص واستعراض الأحداث، وتوزيعها على سنوات الحقبة التي يؤرخ لها.
وباستثناء ابن خلدون في مقدمته، لا أظن المؤرخين العرب على العموم يعون أهمية التحليل التاريخي.
falehajmi@