كنا في المقالة السابقة قد تحدثنا عن سيطرة الخطاب الغربي على العالم لما يقرب من خمسة قرون، بدءا من القوى الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي، وانتهاء بالقوة الأمريكية خلال ثمانية عقود مضت، في فترات صعود وهبوط اقتصادي وعسكري وحروب وأزمات طاحنة. وفي هذه المقالة نتحدث عن بدايات فقدان سيطرة هذا الخطاب الغربي لهيمنته على العالم، وكون مفرداته ورؤيته لم تعد هي السائدة بين الأمم الأخرى، إما لضعف فاعلية ممثليه على المستوى العالمي، أو لأن قوى أخرى أصبحت مهيمنة ومؤثرة في السياسة والاقتصاد، بل وحتى فيما يسمى بالقوة الناعمة من إبداع وتفوق في الفنون والرياضة والآداب.
ففيما يخص العامل الأول، نرى أن الكتلتين الكبريين اللتين تشكلان قوة العالم الغربي، كما يطلق عليه مجازا، بدأتا في التضعضع. الكتلة الأولى هي الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل نواة القارة الأوروبية، حيث بدأت دوله منذ سنوات تصل إلى حافة الإفلاس، وتنقذها البلدان الغنية منها بقروض ودعم مشروط بالإصلاح الاقتصادي. فقد كانت اليونان هي أول وأسوأ النماذج، لكن إسبانيا وإيطاليا أوشكتا على اللحاق بها. وربما تعجل الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا في وصول أي منهما إلى حافة الانهيار، خاصة مع نقص الدعم من دول الاتحاد الغنية خلال هذه الأزمة. وما زالت هذه السنة مفصلية بالنسبة لكل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بعد انفصالهما، الذي لم يصلا فيه بعد إلى اتفاق بشأن آليات الانفصال، الذي اتخذت قراره بريطانيا مع نهاية العام المنصرم. أما الكتلة الأخرى، فهي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا (البلدان الكبيران في قارة أمريكا الشمالية)، وهي الأخرى تعاني من أزمات اقتصادية من جهة، خاصة بعد اجتياح وباء كورونا بشراسة أغلب الولايات الأمريكية، وإيقاف عجلة الاقتصاد قرابة شهرين، ومعلوم أنه لن يعود أيضا بالسرعة التي يرغب فيها الساسة، لانتشال البلاد من حالة الركود التي انغمس فيها. لكن مشكلات هذه الكتلة الغربية (وبالطبع الولايات المتحدة الأمريكية) التي كانت قائدة للعالم إلى وقت قريب، أنها لم تعد مؤهلة للقيادة. فقد تحول الخطاب السياسي فيها إلى خطاب ذي نزعة إقليمية، يعنى فيه أصحابه بالمماحكات الثنائية والاتهامات الهامشية، في حين لم يعد هناك اهتمام بقضايا العالم الكبرى، مثل سباق التسلح أو الطاقة النظيفة والاحتباس الحراري وأمور البيئة، أو أزمات العالم المتعددة في كثير من البلدان.
وبالطبع سيكون العامل الثاني المؤثر في تناقص قيمة الخطاب الغربي هو صعود قوى عالمية أخرى، أصبحت فاعلة في السياسة والاقتصاد. ففي كثير من أزمات العالم السياسية الناتجة عن نزاعات أو حروب، وجدنا روسيا هي السباقة إلى اتخاذ مواقف مؤثرة وسريعة، وتقوم ببناء علاقات قوية مع البلدان التي ترغب في سد النقص الناشئ فيها عن تضاؤل اهتمامات القوى الغربية بمناطق نفوذها السابقة. أما على المستوى الاقتصادي، فإن الصين هي دون شك اللاعب الرئيس في جميع قارات العالم. وقد أوجعت جميع القوى الغربية بهذا التفوق، وخاصة غريمتها ومنافستها إلى أمد قريب فقط (الولايات المتحدة الأمريكية). وفيما يخص القوة الناعمة، فإن عددا من بلدان العالم شرقا وغربا قد أصبحت مصدر التطلع في أغلب الإبداعات والفنون والآداب، ولم تعد باريس أو نيويورك ولندن وغيرها من المدن الغربية هي الوجهة الوحيدة!
falehajmi@