هل يمكنك تخيل ذلك الشخص الذي نعرفه جميعا وقد يكون معظمنا يمثله، الذي يتناول غداء عالي السعرات ويندم ويقرر تعويض ذلك بعدم العشاء لكن خطته تفشل أمام رؤية الطبق الساخن مساء، أو ذلك الذي يرمي سيجارته في لحظة اعتراف بمضارها، ويقسم على الإقلاع عن التدخين، ثم تجده يشعلها بشوق ثانية بعد يوم على الأكثر، وذلك المتسمر لساعات كل ليلة أمام الشاشة، رغم أنه سيستيقظ مرتبكا مستعجلا في الصباح الباكر ليحاول إنهاء تقريره المهم لمسيرته العملية، ويلاحظ أن القاسم المشترك الأهم بين هؤلاء هو ضعف التحكم في الذات الذي يعد العامل الأقوى والمتطلب الأول لمواصلة النجاح في تحقيق الأهداف طويلة المدى، وفي تمكين الفرد من تفادي الوقوع في أزمات الحياة المبكرة، واللامبالاة تجاه العواقب فلقد مثلت القدرة على تأجيل الإشباع ومقاومة المغريات تحديا أساسيا منذ فجر التاريخ، وهي محور قصة نشأة الخلق، والموضوع الأهم لدى الفلاسفة، فالأشخاص المتمكنون من إدارة انفعالاتهم وكبت اندفاعاتهم بشكل جيد يتميزون في كل ميادين الحياة وتكون لديهم فرص أكبر للنجاح، أما الذين لا يتحكمون في حياتهم الانفعالية فيواجهون معارك داخلية تدمر قدرتهم على التفكير السليم والتركيز في العمل، ولطالما اعتبرت قوة الإرادة سابقا سمة ثابتة، إما أن تمتلكها أو لا تمتلكها، لكن الدراسات في العقود الأخيرة في علم الأعصاب وعلم النفس صححت ذلك وأوضحت أن تلك المهارة يمكن اكتسابها بتدريب الدماغ عبر تمارين معينة وإستراتيجيات في تغيير الصور الذهنية واستبدال المفاهيم، وكم نحن محظوظون كمسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي بأننا نمارس تدريبا إيمانيا إلزاميا سنويا مربحا لنفوسنا ومهاراتنا ويؤهلنا لشحذ ذكائنا العاطفي بأقوى الأساليب، إذ أن التدريب على ممارسة تأجيل الإشباع لأقوى دافع بيولوجي في التركيبة البشرية كالجوع والعطش يعد أثرى في تنمية الذكاء العاطفي، وتكمن أهمية هذا التدريب في استعداد الشخصية لتأجيل أقوى شهواتها، وإمكانية أن ينسحب ذلك على سائر ممارساتها التي تطلب تأجيلا متواصلا، فمن أحكم يده على جسده لانت في كفه الصعاب، فالصوم نظام يمنح الإنسان قوة في مواجهة أشد الميول الغريزية والفردية في نفسه، ويجعله مسيطرا عليها عبر طريق الإيمان، فهو أعلى تعبير عن الإرادة، لأن القدرة على تأجيل الإشباع تزداد قوة كلما كانت القناعات قوية والدوافع واضحة، والنوايا حسنة، وليس هنالك مثل نية صيام رمضان ابتغاء مرضاة الله كآلية تطويرية تطهيرية، ومدرسة عالية الروحانية، فهو الركن الذي يجمع بين واجب التعبد، وبين ترويض الجسد والغريزة، في فترات دقيقة رتيبة، ليستريحا بين الحين والحين، وينشط العقل والروح، فالتحكم في الشهوة وقيادة الهوى ولجام المعدة هي أبرز ملامح القوة الشخصية، فالصوم كما وصفه ابن القيم «لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين»، فهنيئا لنا كمسلمين بركات هذا الشهر العظيم، داعين الله أن نكون من المقبولين.
LamaAlghalayini@