بدايات عهودنا الإدارية تدعو إلى التوقف عندها، والاستغراب أحيانا.. لم يكن ثمة دوام رسمي يلتزم به موظف الحكومة، ولا مسيّرات رواتب شهرية أو جداول قضايا، فالأمور كانت تسير وفق استجابات مباشرة وتلقائية عفوية يُعالج بها المسئول القضية التي أمامه. ولم يكن يوجد مفهوم عام للوظيفة الحكومية سوى كون الوظيفة الرسمية معتبرة وآمنة وشاغلها يتمتع بجزء وافر من التميّز والبروز اجتماعيا.
(المحافظ) اعتاد أن يجلس بعد صلاة العصر في ساحة كانت تُسمّى (المَجْلس) وهو ساحة السوق، يجلس على دكّة بُنيتْ من الطين وعلى يمينه ويساره أفراد من عائلته ومن الأعيان. وعلى الأرض مباشرة يجلس عدد من المرافقين الذين يرسلهم إلى من يطلب حضوره.
أما قاضي البلد ويسمونه في تلك الأزمان (الشيخ) فيقضي بين الخصوم في منزله. وربما على عتبة دكان أو تحت نخلة في بستان أو بظلّ شجرة أثل.
مسألة المواعيد في التقاضي لو جاز لي أن آتي بملحة أو دعابة لقُلتُ إننا أخذناها من التاريخ الأدبي للعصر العباسي، ففي عهد الخليفة المأمون ثبت وجود الدوام الرسمي في (الدواوين) تلتزم به الدوائر من قضاة وعسكر وحراس ومندوبين، وإن ذاك الدوام مطلوب لقاء ما يستلمه العامل من مكافأة وأرزاق.
كان الخليفة العباسي المأمون جالسا في ديوانه حينما دخلت عليه امرأة وأنشدت
يا خير منتصف يُهدى له الرّشَدُ.
ويا إماما به قد أشرق البلدُ.
تشكو إليك - عميد القوم - أرملة.
... إلى آخر القصيدة
فأطرق المأمون حينا.. ثم رفع رأسه وقال:
في دون ما قلت زال الصبرُ والجَلَدُ
إلى أن قال:
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي
واحضري الخصم في اليوم الذي أعدُ
والمجلس السبت، إن يُقضى الجلوس لنا.
ننصفك منه، وإلا المجلس الأحدُ.
.. والمغزى الذي أستنتجه من هذه القصة هو أن ثمة مواعيد دقيقة ومتقاربة بعضها من بعض للاستماع إلى المتخاصمين من الولاة والقضاة على السواء في إمبراطورية واسعة وهي الدولة العباسية.