تناولنا في المقالات السابقة واقع المدارس في اليابان والتي تسمى مدارس الحشو وهي مدارس تابعة للقطاع الخاص تهتم بتزويد الطلاب بالمعارف من أجل إعدادهم لاختبارات القبول في الجامعات بغض النظر عن قدرة هذا النظام على تحقيق أهداف التربية بمفهومها الحديث، واستعرضنا كيف يُقبل بعض أولياء الأمور على هذا النوع من المدارس ظنا منهم أنهم يساعدون أبناءهم على مواصلة تعليمهم العالي بعيدا عن عمليات التطوير المستمرة التي تشهدها المدارس الحكومية، وأشرنا إلى أن هذا النوع من المدارس هو في الحقيقة موجود في كثير من البلدان لكن المستغرب أن يكون موجودا في بلد مثل اليابان يشهد نهضة صناعية شاملة جعلته في مقدمة دول العالم، ومكنته من إعادة إعمار الدمار الذي شهدته البلاد إثر انهزام اليابان في الحرب العالمية الثانية. ونحن نشهد كيف استطاعت هذه البلاد أن تنهض من جديد حتى أصبحت منتجاتها التي تعرف بالجودة تغزو أسواق العالم شرقًا وغربًا غير أن تفوق اليابان في التربية والتعليم لا يقل أهمية عن تفوقها الاقتصادي، وهو بلا شك كلمة السر في تفوق كافة البلاد التي حققت مكانة اقتصادية وحضارية بين دول العالم حتى إن بلدا مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبما تمتلكه من مقومات لم تجد حرجا في الاستفادة من التجربة اليابانية حيث كلفت فريقا من الخبراء والباحثين لإعداد دراسة شاملة وافية عن التعليم في اليابان للاستفادة منها، وقد نجم عن هذه الدراسة إعداد كتاب شمل الأسس والمنطلقات التي بنيت عليها عملية التربية والتعليم في هذه البلاد، ومع أن المراحل التعليمية في اليابان كما أسلفنا تتشابه مع بنية هذه المراحل في معظم بلدان العالم بما فيها بلادنا من حيث وجود مرحلة ابتدائية مدتها ست سنوات تشكل مع المرحلة الإعدادية التي مدتها ثلاث سنوات ما يسمى المرحلة الأساسية وهي مرحلة إلزامية ثم المرحلة الثانوية فالجامعية لكن ما يميز المدرسة اليابانية هو عنايتها بأن يكون الطفل مفكرا بحيث لا يتلقى المعلومات عن طريق الشرح المباشر لأن الطفل في هذه المرحلة ربما لا تتحقق لديه الفائدة المطلوبة من هذه المعارف، ولذلك فإن أول أهداف التعليم في اليابان تحويل نمط تلقي المعلومات إلى أن يجتهد الطفل نفسه للحصول على المعلومة وتحفيزه ليكون راغبا في الحصول على المعرفة، بل والاستزادة منها أي أن يعتاد على الفضول المعرفي وهي الرغبة في مزيد من المعرفة كلما عرف يتعطش إلى معرفة أكثر وهو ما نسميه عملية التعلم وليس التعليم، ويقتضي هذا الأسلوب أن تلجأ هذه المدارس إلى أنماط التعلم الجماعي بحيث يعمل الطالب مع رفاقه للحصول على المعلومات ثم يتشاركون فيما حصلوا عليه منها، مما يكسب عملية التعلم التفاعلية والتي تجعل عملية التعلم جديرة بأن تسمى (التعلم النشط) أو التفاعلي الذي يكون فيه الطالب مشاركا في إنتاج المعلومة والحصول عليها وليس متلقيا لهذه المعلومة بطرق التلقي التقليدي المباشر ضعيفة التأثير. وفي سبيل ذلك فإن واضعي المناهج والمقررات المدرسية يهتمون بتخفيف عبء المواد الدراسية على الطالب وإعطائه المعلومات بشكل مبسط وسهل يتناسب مع قدراته وإمكانياته وعمره، والأهم من ذلك فإنه يتم تحديد مستوى الطفل قبل التحاقه بالمدرسة حيث يتم تقسيم المدارس حسب مستويات الأطفال ويتم إلحاق الطالب بما يتناسب مع مستواه منها، كما تهتم المؤسسة التعليمية اليابانية بأن يكون التعلم مبنيا على العمل الجماعي مما يعزز هذه الروح في الطلاب ويجعل ذلك سلوكا دائما في حياتهم العملية مستقبلا، ويبدأ ذلك بغرس روح المسؤولية في نفوس الطلاب بدءا بالمحافظة على البيئة المدرسية بما فيها من مبان ومرافق وأدوات، كما أن العام الدراسي في اليابان من أطول الأعوام الدراسية في العالم ولا يحصل الطالب إلا على إجازة هي الأقصر بحيث يلتزم الطالب بالحضور إلى المدرسة للقيام ببعض الأنشطة والمشاريع التي تكسبهم معارف ومهارات إضافة إلى ما يكسبونه منها في غرفة الصف وبذلك فإن الإستراتيجيات التعليمية في هذه البلاد تمنح الطلاب القدرة على الإبداع وتعدهم للإسهام في نهضة البلاد وتقدمها.
fahad_otaish@